جان كورد : الكورد واتفاق المتناقضين

2012-11-27

إن لعلعة فوهات الكلاشينكوفات وتكاثر الميليشيات المقاتلة في سوريا اليوم هي التي تحدد الآفاق السياسية لكل من المعارضة والموالاة على حدٍ سواء، وليست السياسات الحزبية والتحالفات هي من يقرر الحركة الفعلية للجماهير على أرض الواقع السوري.

وبحكم أن الكورد جزء من هذا المجتمع المنكوب فإنهم أيضاً معرضون لمد بساطهم على قدر سلاحهم وقواهم القتالية، شاؤوا أم أبوا. وهذا ما فهمه البعض من ساسة الكورد منذ تحول الثورة السلمية السورية إلى قتالٍ شرس ومتعاظم يوما بعد يوم بين نظام مستكبر غاشم وشعب ابتلي بحكم طاغوت لامثيل له من حيث الاسراف في التقتيل وقلة الحيلة في إيجاد المخارج العقلانية لنفسه من محنته العظيمة، في حين أن بعض الساسة الألمعيين فشلوا في ادراك الأبعاد الحقيقية لما يجري على الساحة السورية فراهنوا على مواقفهم السياسية وقدراتهم على استخدام الألوان والأصباغ لاخفاءحقيقة ضعفهم وشطط خططهم وهشاشة علاقاتهم،
وأضطر أكثرهم بحكم تدافع الأحداث الجسيمة واقتراب الأخطار من باب البيت الكوردي إلى البحث عن قوته لدى من يشاطره سكناه في ذات البيت، وتحت ضغط والحاح من الجماهير الكوردية التي لم تعد تطيق حالة التشتت والضعف، تلاقت الأطراف الحزبية الكوردية على فكرة بناء مجلس وطني كوردي فيما بينها ضمت إليه عددا لابأس به من الوطنيين الذين في مجموعهم متفقون مع هذه الأحزاب في الكثير مما يدور في حلقات النقاش السياسي، كما أن شعار "صون الوحدة الوطنية" كان على الدوام يتصدر حواراتهم ومنتدياتهم. فظهر المجلس الذي هلل الشعب له وكبر كحامل أمل، في حين أن بعض السياسيين الكورد وقف موقف الشك من امكانية النجاح لأن الأحزاب المؤسسة والمنضمة كانت متناقضة في العديد من المواقف ومختلفة في الولاءات الكوردستانية وفي المواقف تجاه النظام والمعارضة قبل ذلك، وما كان بالامكان انجاح المشروع دون مساهمة كوردستانية وضغوط من هنا وهناك بهدف تحقيق قيام المجلس رغم كل مساوىء الاكراه السياسي الذي شعر به البعض من قادة الأحزاب، ولم يرضوا بأن يصبحوا أداة إحراج للإخوة الكوردستانيين الذين أرهقوا أنفسهم من أجل إظهار الكورد السوريين في هذه المرحلة الخطيرة للمنطقة بأسرها وكأنهم أبناء عائلة متفقة كلياً على كل شيء، رغم أن الواقع غير ذلك حقاً.
إلا أن نقطة الضعف الأولى في المشروع هي أن ليس بين هذه الأحزاب من يستطيع الاعتماد على نفسه في بناء قوة مقاتلة تحمي المنطقة الكوردية الممتدة من شرق سوريا إلى غربها من ناحية الشمال، في حين أن مثل تلك القوة ضرورية نظراً لخطورة المرحلة. فكان لابد من بناء ادنى ما يمكن من أسباب القوة من مئات الكورد السوريين الفارين من الجيش النظامي السوري المتواجدين في اقليم جنوب كوردستان، وهذا يعني تورط حكومة الاقليم الذي تحيط به المشاكل من كل حدب وصوب في ما يحدث في سوريا من الناحية العملية، سواء اعترفت حكومة الاقليم بذلك أم لم تعترف. وهذا ما ساهم في تعميق الخلافات بين هذه الحكومة الموالية تماماً للنظام الايراني الداعم للنظام السوري عسكرياً وماليا واستخباراتيا وبين حكومة الاقليم الكوردي.
المشكلة الأخرى في هذا المجال كان استغلال حزب العمال الكوردستاني للظروف التي تمر بها سوريا للقيام بتسليح تنظيمات حزب الاتحاد الديموقراطي العضو في "هيئة التنسيق الوطني" السورية، ومدها بالكوادر اللازمة لبناء ما أطلق عليه اسم "وحدات حماية الشعب"، على الرغم من أن هذا الحزب يطمح سياسيا للحصول على "إدارة ذاتية ديموقراطية" فقط وأعلن رئيسه بالاشتراك السيد صالح مسلم بكلام واضح أن حزبه ضد مشروع "الفيدرالية" الذي اتهمه بأنه "مشروع أمريكي!“. ولا أدري كيف يبني جيشا من عدة ألوية مقاتلة من يطالب بهكذا مطلب متواضع لايختلف كثيرا عن "الإدارة المحلية". والسؤال الذي يتطلب إجابة ملحة:“من أين لهذا الحزب كل هذا السلاح وهذا العتاد وهذه الألبسة وأجهزة الاتصال والأموال اللازمة لادارة جيش كامل، ونحن نعلم بأن حزب الاتحاد الديموقراطي لم يستولي حتى اليوم على أي ثكنة عسكرية للجيش النظامي السوري، وإن جاءته هذه المعدات والأسلحة من خارج البلاد فمن أي مصدر وعبر أي حدود؟ وتركيا التي يعتبرها هذا الحزب أكبر عدو له تراقب حدودها مع سوريا ليل نهار.
فكر الإخوة الكوردستانيون في اقليم جنوب كوردستان أن لا نجاح لمشروع المجلس الوطني الكوردي الذي لاحول ولاقوة له من دون احتواء حزب الاتحاد الديموقراطي، وبخاصة فقد كانت تلوح في الأفق بوادر نسف المجلس ككيان سياسي من قبل هذا الحزب، المدجج بالسلاح والمتهم من قبل المعارضة السورية والجيش السوري الحر بأنه متعاون مع النظام الأسدي، فعمل الكوردستانيون على جذبه وكسبه، وفي مقدمتهم السيد مسعود البارزاني، رئيس اقليم جنوب كوردستان، وذلك بهدف "تقليل الخسائر وتحجيم المشاكل" ونجم عن اللقاءات المتكررة في ضيافته الكريمة ما سمي ب"الهيئة الكوردية العليا" بعد تقديم تنازلات ضخمة لحزب الاتحاد الديموقراطي القوي عسكرياً على الساحة في غرب كوردستان، والمدعوم إعلامياً ولوجستيا من قبل حزب العمال الكوردستاني، بل ومن قبل جميع الأكراد السوريين الذين كانوا أو لايزالون في صف النظام المترنح، وكذلك من قبل حلفائه في هيئة التنسيق الوطني، حيث أن هذه الهيئة راضية - كما يبدو – عن المطالب المتواضعة له، ولكنها بالتأكيد لن ترضى عن امعانه في بناء قوة عسكرية له قد تهدد وحدة سوريا في نظرهم.
وفي الحقيقة فإن الإخوة الكوردستانيين الذين لايريدون لعلاقاتهم مع تركيا وايران والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة أن تسوء، كانوا بحاجة إلى القيام بتقريب وجهات النظر بين المجلس الوطني الكوردي وحزب الاتحاد الديموقراطي لعدة أسباب، منها:
- من حيث المنطق العقلاني ومن خلال تجاربهم المريرة تعلموا أن الصراعات الدموية بين الكورد تعرقل تقدمهم من كل ناحية، ولذلك فهم صاروا أشد وعياً من سنوات العقد الأخير من القرن الماضي.
- انتصارهم في تحقيق وحدة أو تحالف كوردي سوري يقوي من أسهمهم السياسية لدى النظام السوري ومن خلفه، وكذلك لدى المعارضة السورية ومن وراءها، وهذا مكسب سياسي كبير سيصب في قناة قدراتهم السياسية والدبلوماسية على مستوى المنطقة برمتها.
- نجاحهم في المشروع سيزيد من التقارب بيتهم وبين حزب العمال الكوردستاني، بل ويساعد في لعب دور أهم في الحوار المامول بين الكورد والترك في تركيا أيضاً، كما يعزز دورهم في الاملاء السياسي على الهيئة المنبثقة عن حوارات الكورد السوريين، وسيوجد الاتفاق لهم مخاطباً كورديا سوريا واحدا، عوضا عن هذا الكم الكبير من الأحزاب والزعامات التي ترهق أسماعهم بالشكاوى والمطالب.
- كما يعني الفشل قي ذلك عدم الاستفادة من الطاقات العسكرية لحزب الاتحاد الديموقراطي.
أما بالنسبة لحزب الاتحاد الديموقراطي الذي فشل زعماؤه حتى الآن من تحقيق أي مكسب لهم على الساحة الدولية بسبب أن حزبهم يصنف كجناح سوري لحزب العمال الكوردستاني الذي لايزال اسمه في قائمة "التنظيمات الارهابية" في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، ويعاني من مشاكل مع الشارع الكوردي السوري بسبب تهم حول ممارسات مختلفة وعديدة لاتباعه ضد أنصار وأعضاء بعض الأحزاب الكوردية، تصل إلى مستوى التهديد والاختطاف والقتل، وكذلك ارهاق المواطن الكوردي بصنوف الضرائب والمحاكمات الصورية والاجراءات التعسفية، فإنه بحاجة ماسة إلى "قبول سياسي" من قيادات كوردستانية، يمكن استثماره على صعيد العلاقات الدولية وفي لجم رياح النقد العنيفة عليه من الشارع الكوردي ومن الحركة السياسية الكوردية، وكذلك لتبديد الادعاءات الكثيرة حول مواقفه الضبابية حيال النظام.
وبالنسبة لأطراف الحركة الكوردية الأخرى، فإنها ملتزمة بما يتم اقراره في عاصمة اقليم جنوب كوردستان لعدة أسباب معروفة متعلقة بولاءاتها وعلاقاتها الكوردستانية ولضعف قواها وحاجتها إلى من يعوضها عن ذلك الضعف.
بعد أن رأت "الهيئة الكوردية العليا" النور، أصدرت قيادة "وحدات حماية الشعب" التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي بياناً ذكرت فيه أنها "غير ملتزمة" بقرارات هذه الهيئة، مما اعتبر من قبل الأطراف الكوردية الأخرى فيها بأن هذا جرس انذار وتصريح بعدم التزام حزب الاتحاد الديموقراطي، فكيف ترفض قيادة عسكرية أوامر قيادة سياسية مشتركة، وكما قلنا في بداية المقال بأن القوة العسكرية اليوم هي التي تحدد أطر السياسة اليوم في سوريا، مما استدعى فتح باب الحوار ثانية حول الموضوع برمته.
استغل الإخوة الكوردستانيون تواجد ممثلين عن أطراف حزبية كوردية سورية في عاصمة اقليم جنوب كوردستان بهدف اقامة "اتحاد سياسي" فيما بينها وهي (آزادي 1، آزادي 2 ، يكيتي، البارتي) لعلمها بأن مثل هذا الاتحاد ضرورة قومية اليوم، وبه يمكن منافسة حزب الاتحاد الديموقراطي، سياسيا على الأقل، إن لم يكن عسكريا، فشرع الإخوة الكوردستانيون مجدداً قي إزالة العوائق التي تقف راسخة في طريق الهيئة الكوردية العليا، التي بانهيارها قد تؤدي بالتالي إلى فشل مشروع المجلس الوطني الكوردي أيضا.
وحيث المحادثات لم تنته بين المتنازعين، إلا أنها قطعت شوطاً كبيرا وحققت بعض أهدافها، ظهر بيان آخر ل"وحدات حماية الشعب" يعلن مجددا أن لا التزام له بقرارات من أي جهة سوى من حزب الاتحاد الديموقراطي، الذي يبدو وكأنه موافق في جلسات الحوار تلك على مطلب "الفيدرالية" للشعب الكوردي، وأنه مع فكرة بناء جيش كوردي سوري موحد وبتسمية جديدة وقيادة مشتركة. فجاء بيان وحداته المسلحة كضرب بالسوط على قرارت الأحزاب المجتمعة.
إلا أن زعيما كورديا قد تحدثنا معه قبل كتابة هذا المقال، أكد بأنه لايرى آمالا كبيرة تتحقق من هذه اللقاءات، رغم الجهود المضنية التي يبذلها الإخوة الكوردستانيون، فالتناقضات عميقة بين بعض الأطراف، وحزب الاتحاد الديموقراطي يسعى من وراء هذه الحوارات واللقاءات تعزيز مواقعه السياسية بشتى أساليب المناورة، ولايتخلى عن سيطرته التامة على قواته، وكذلك عن سياسته تجاه الجيش السوري الحر والمعارضة الوطنية السورية عموماً، وأعرب هذا الزعيم عن تخوفه من أن ينهار المشروع الذي يتخبط في أوحال الخلاف، رغم البياتات والتصريحات الايجابية، وأن قدرة الحركة الوطنية الكوردية على انجاز وحدتها الحقيقية مرهونة بمدى تجاوز القيادات الكوردية مرحلة "التحزب المقيت" واستعدادها لوضع مصلحة الشعب الكوردي والثورة السورية فوق المصالح الضيقة للأحزاب والزعامات.



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.