تحفظ...

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 6 سنة 1 يوم ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 28/02/2011

- لدي بعض التحفظات الطبية يا دكتور.
- …
- كحقيقة أن جسم الإنسان يتكون 70? من ماء.

كان هذا أول ما قاله حين دخل العيادة، في حين أشار الطبيب له بالجلوس مخفياً رأسه خلف الملف وأجاب دون أن يلتفت:
- عفواً، ربما سنتحدث بهذا لاحقاً، إن كان لدينا متسع من الوقت، فلنبدأ بما يهم الآن. كتبتْ الممرضة هنا في ملفك أنك تشكو من حكةٍ ما كما أخبرتَها، هل هذا صحيح؟ أين تشعر بهذه الحكة تحديداً؟
- نعم، ابتدأ الأمر في أطراف أصابعي، ثم كفي، كان يبدو أن دبيباً من النمل يجري في عروقي، انتقل الأمر بعدها إلى ذراعي، ثم بطريقة ما إلى رأسي، وعندها صار الأمر مستعصياً على التحمل.

أخذ الطبيب يتفحص رأسه فيما كان الرجل يواصل شرحه.
- قشرة رأسك تبدو سليمة تماماً.
- لا لا لا، أشعر بالحكة في ذهني تحديداً.
- عفواً لم أفهم.
- هناك أشياء كثيرة مستعصية على الفهم في هذا العالم يا دكتور، لكنها رغم ذلك تحدث، هكذا بكل بساطة، تحدث.

ألقى الطبيب نظرة ارتياب اتجاه المريض، ثم طرح سؤاله فيما كان يدون ملاحظاته مطرقاً رأسه:
- حسناً ومتى بدأت هذه الحكة بالحدوث؟
- لستُ متأكداً لكني .. لدي تحفظ عليك يا دكتور.
- عفواً هل يزعجك تدويني للملاحظات فيما أنت تتكلم؟ اعذرني فهذا ضروري لكي …
- لماذا تمارس هذه المهنة تحديداً؟

توقف الطبيب عن الكتابة وخلع نظارته متصنعاً نصف ابتسامة، وما إن همّ بالإجابة حتى قاطعه المريض مرة أخرى:
- لا يهم، أتحفظ على إجابتك مسبقاً، أعرف ما ستقوله تماماً عن السعادة التي يجلبها لك الأمر كله، وأهمية وجود أناس مثلك على هذه الأرض، ثم ستتبجح بأنك لا تملك وقتاً لنفسك لكونك متفانٍ في مساعدة الآخرين وكل هذا الهراء. الحقيقة هي أنك لا تكترث إلا بشعورك بهذه الفوقية البغيضة أمام مرضاك. يهمك أن ترى نظرات الشكر والعرفان في عيونهم المرهقة، وتنظر إليهم أنت في المقابل كما لو كانوا يدينون إليك بأكثر من مبلغ مالي. هكذا تمارس دور الرب علانية بكل استعلاء، ورغم كل هذه الوقاحة فإنها تعتبر المهنة الأسمى في تاريخ البشرية. ألا يثير تحفظك مدى ما ينطوي عليه الأمر كله من تناقض يا دكتور؟
- عفواً كل ما كنت أريد قوله هو أن يومي كان طويلاً ومرهقاً ولا أرغب بخوض نقاش مع مريضٍ عن …
- أترى ما أعنيه؟ لهذا بالتحديد تتطلب منك مهنتك أن تكون غارقاً في التعالي والوقاحة.
- عفواً، ربما من الأفضل أن أحيلك إلى طبيب نفسي فمشكلتك تبدو …
- ولدي تحفظ على هذه العفواً التي ترددها دون اكتراث حقيقي بأن أعفوك، وعلى كل ما قلته وكل ما ستقوله لاحقاً، وكل هذه الأشياء عديمة الأهمية التي تحشرها على الطاولة لتمنحك شعوراً سخيفاً بالهيبة .. أتحفظ عليها.
قال هذا وأطاح بسماعة الطبيب وملفاته وأقلامه وكل ما على طاولته إلى الأرض.
- حسناً حسناً، لك هذا، على ماذا أيضاً تتحفظ؟
وجّه الطبيب سؤاله كاتماً غضبه ومتظاهراً بالاهتمام فيما كان يومئ للممرضة بإعداد الإبرة المهدئة.

- أتحفظ على الكثير يا دكتور، أتحفظ على أن يكون لي وجه لم أختره، وجسد لم أختره، وبرج سماوي لم أختره. بإمكاني التصالح مع عواقب أفعالي لو كانت متجردة من كل هذه الأشياء، لكني لا أتفهم لماذا يجب أن تحدد شخصيتي ومسارات حياتي خياراتٌ لم يكن لي يدٌ فيها. أتحفظ على أشياء أخرى كثيرة ، كضرورة أن يعود شعر ذقني للنمو كلما حلقته، وضرورة التبول كحاجة روتينية مملة للتفريغ، وضرورة أن أضيع وقتي في التهام ما أدرك أنه سيغادر جسدي عاجلاً أو آجلاً، وضرورة أن .. ما هذا؟
- مجرد إبرة بسيطة، قد تساعدك في التخلص من هذه الحكة في دماغك. لا تعرها أي أهمية، واصل حديثك.
أجاب الطبيب فيما كان يضرب أطراف أصابعه بنفاذ صبر على الطاولة ويشير للممرضة بمباشرة الحقن، فيما أدار المريض رأسه محدقاً في الممرضة الأجنبية التي كانت تنحني عليه ممسكةً يده بحذر أثناء حقنه، وقال مسترقاً النظر إلى ما ظهر من نهديها:
- أتحفظ على الشهوة، على هذان الشيئان المتكوران بكل سخافة، وعلى سذاجة هرموناتي حين تُرغم على التفاعل مع انتفاخهما الهزيل، أتحفظ على فكرة الجنس بحد ذاتها وما تحتله من أهمية في هذا العالم، كل هذا التخويف والترغيب والاستغلال الاعلامي والتحليل النفسي وما ينتج عن الأمر كله من آثار اجتماعية وسايكولوجية وجسدية، كل هذا من أجل أمرٍ هو في ذروته لا ينتهي إلا بتلامس أعضاء تناسلية.
وهنا أعاد رأسه ناحية الطبيب وأكمل بانفعال:
- … أعني أعضاء إخراجية حقيرة!

كان الطبيب آنذاك يرفع كفه بتوتر معيداً النظر إلى ساعته، في انتظار أن يأخذ المخدر مفعوله، فيما أكمل المريض:
- أتحفظ على أن تكون هذه الحقارة هي الطريقة الوحيدة للإنجاب، أن تقذف حياة كاملة إلى هذا الكون بنشوة 8 ثوانٍ أو أقل! هل تفهم ما أعنيه يا دكتور؟ كيف لا يمكن أن يثير التحفظ أن يكون الانسان محكوماً بالأنانية والتنافس والإقصائية كشرط للبقاء منذ أن كان حيواناً منوياً؟ أعني بالتحديد ذلك الحيوان المنوي الذي قرر أن يسبق ملايين أشباهه، الحيوان المنوي الذي لم يكن ليكون لولا نزعته البغيضة لتجاوز بقية أقرانه وإلغائهم جميعاً، الحيوان المنوي المنحط المفرط في أنانيته، الحيوان المنوي الذي كان أنا وأنت وكل انسان على وجه الأرض، أتخيل زهوه المقرف بنفسه لحظة وصوله وأتمنى لو أن شيئاً ما يسحبه من ذيله ويقذف به إلى الخلف!

عندها لوح الطبيب ذراعه المرتجفة بعصبية وقال مستنكراً:
- أنت تفقدني صبري هنا، هل يمكنك اقتراح طريقة بديلة للإنجاب؟
- لا أعرف هذا، لكني في نفس الوقت أعرف أن في هذه الطريقة ما يبرر أن يكون لي عليها تحفظ.
- ثم ماذا؟ كل هذه التحفظات .. ما هي الفائدة؟ أتظن أن أحداً يكترث؟ أن شيئاً ما سيتغير؟
- ربما لا ، لهذا أتشبث بحقي في الاعتراض على انعدام إمكانية التغيير هذه، هناك شيء استثنائي وثوري في ما أفعله هنا يا دكتور، أن أصرخ لأعلن للبشرية مدى قلة الاكتراث الذي تغرق به، أن لا أترك لهم الحرية الكاملة في تبسيط أمر هذه التناقضات، أن أمارس هذا الدور الذي يعجز كل منهم عن ممارسته لأنه يخشى أن يقلص نصيبه من الحياة الطبيعية السهلة، وكلهم يدركون هذا جيداً، لهذا يقفون على الطرف الزائف من القضية، في مواجهتي تماماً، ساخرين وشامتين ومستسخفين لما أقوله، وفي جوف كل منهم، هناك جزء يحترق رغبة في الانضمام إلي، جزء ما يحك نفسه رغبة في الاعتراف، ذلك الجزء الخفي الكامن المرعب الذي يدرك قبساً من الحقيقة ويخشى مواصلة استكشافها، الاحتمال المرعب الذي يريد أن يصرخ بتحفظاته ولا يجرؤ.

أخذ الطبيب يحك عينيه بتعب ثقيل متمتماً: “يكفي ، يكفي، استمعت إلى ما يكفي من هذا الهراء” قبل أن يرفع صوته موجهاً حديثه إلى الممرضة:
- أنتِ يا عديمة الفائدة، لا تقفي هناك ببلاهة، لماذا لم يبدأ مفعول الحقنة حتى الآن؟ ألا يمكنكِ القيام بشيء واحد بشكل صحيح؟
- هل بدأ ذهنك يحكك أنت أيضاً يا دكتور؟ أعرف شعورك تماماً، هكذا تتسرب إليك الحكة من أطراف أصابعك، كفك، ذراعك والآن تتخلل شيئاً فشيئاً إلى دماغك، إنني أرى الآن كم نتشابه كثيراً، أنا وأنت يا دكتور، كلانا نملك ذلك الشيء الخفي الكامن الذي يملك الجرأة على أن يقول “لا”، أعرف أنك تملكه أيضاً، كلانا نرفض قلة الاكتراث التي يواصل بها الآخرون مسير حياتهم ببلادة كي لا تعرقلهم مثل هذه التحفظات وكل ما تحمله الأمور من تناقض.

أمسك الطبيب رأسه بعصبية في محاولة أخيرة لكتم انفعاله، فيما واصل المريض:
- لا أحاول جذب اهتمامك ولا أن أضعك في مأزق، لكن القدر اختارك لتشاركني إياه يا دكتور، مأزق أن يكون لدي تحفظ على بعض الأشياء، ككوني لازلت أتحدث إليك، وكونك لازلت تستمع.

هنا ضرب الطبيب طاولته بانفعالية:
- وفي الوقت نفسه لديك تحفظ إن لم أستمع إليك، يا إلهي! ماذا تريد مني أن أفعل؟ لماذا جئت إلى هنا؟!
- قلت لك، جئت لكي تعالجني من هذه الحكة، وكل ما فعلته هو إثارتها أكثر، أنت وإبرتك المريبة هذه. لم تفعل شيئاً سوى الجلوس هنا ومحاولة أن لا تقول حقيقة ما تفكر به، لا تملك الجرأة على الاعتراف بهذه الحكة الدماغية اللعينة، لكنك تملك الجرأة على أن تسمي نفسك طبيباً، لقد كنت مخطئاً بشأنك كلياً، أنت وكل ما تفعله، مليء بالتناقض، ومثير للتحفظ، كغيرك تماماً.

عندها نهض الطبيب صارخاً ملئ رئتيه:
- وأنا سوف أتحفظ على أن يكون لديك تحفظ! من تظن نفسك؟!
- أتحفظ على أن تتحفظ على تحفظي، أنت من تظن نفسك؟!
- أنا الطبيب هنا يا حشرة! أنت من تظن …
- أتحفظ على هذا ال…
- إخرس! إخرس! أنا لدي تحفظ على أمثالك .. أن يمارس الجميع حقهم في الانتقاد وكل هراء حرية التعبير هذا .. أتحفظ عليه .. ياإلهي .. بلادة الناس هذه الأيام .. عديمو الاحترام .. لا أحد فيهم ينصت سوى لنفسه .. أتحفظ عليهم .. لا يجيدون شيئاً سوى رمي فشلهم على الآخرين، ولا يرون مدى الفشل الذي يغرقون به، يقطنون فيه، يقتاتون عليه .. فاشلون .. أتحفظ عليهم جميعاً .. كل هؤلاء المدعين والمتبجحين والمنافقين والمتحذلقين والمتنمقين والمتخلفين والمعترضين والملاعين والمخانيث و .. و.. وأنتِ أيضاً! لا تحدقي بي هكذا .. أتحفظ عليكِ! .. أتحفظ عليكِ!

وحين انتبه من نظرات الممرضة التي خرجت مرعوبة أنه تمادى في الصراخ، جلس يستعيد أنفاسه اللاهثة للحظات، ثم تمتم بهدوء مصطنع: “وأتحفظ في نفس الوقت على من يشتمهم كما لو كان خالياً من أي من صفاتهم.”

-وماذا .. أيضاً .. يا دكتور .. على .. ماذا .. أيضاً.. تت.. حف..ظ؟

كان هذا آخر ما قاله المريض، قبل أن يغرق في غيبوبة المخدر، فيما واصل الطبيب تحفظه على أشياء أخرى كثيرة، كأن يكتسب حديثه أي نوع من الأهمية، كما يتحفظ في نفس الوقت على أن يتلاشى حديثه في العدم دون أي اكتراث من أحد.

عبدالعزيز محمد