عماد يوسف : حوار مع الكاتب و الباحث عبد الواحد علواني

2012-07-09

 
       لم يقف الأكراد متفرجين عندما تعرض أبناء الوطن للقتل والقمع
          مع أنهم دوماً كانوا بلا سند في وجه السلطة ...

 
حاوره : عماد يوسف
باحث وصحافي سوري يهتم بالشؤون التربوية وقضايا الفكر المعاصر وحوار الحضارات، ينطلق من ثقافة إنسانية عامة، ويعبر عن تداخلاتها مع البيئة الإسلامية، مهتم بالشأن الكردي انتماء وقراءة، والشأن العربي ثقافة وانتاجاً. والشأن الإسلامي تفسيراً وتأويلاً، والشأن الإنساني حقوقاً ومثاقفة. كتب ويكتب في الدوريات الصحف العربية، عضو في رابطة الكتاب السوريين ورابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا. والهيئة الدولية للتربويين IEO))


1 – نريد أن نتعرف على نتاجكم المعرفي و آخر أعمالكم ؟
لي مؤلفات أدبية مبكرة طبعت على نطاق ضيق، وانتاج غزير في التربية وأدب الطفل ترجم بعضه إلى عدة لغات كما نشر بعضه عن أهم دور النشر العالمية، ومؤلفات عن حوار الحضارات وصدام الثقافات وقضايا النص واللغة، وأعمل على مشروع أساسي يتعلق بالأديان في العالم وضبط العلاقة بينها وقيم التسامح، كما أعمل على بناء ضوابط ومعايير عالمية للانتاج (المعرفي والإبداعي والتربوي) الخالي من الأبعاد التعصبية، لدي بعض الكتب المخطوطة والتي أعدها للنشر قريباً. منها كتاب عن (الطاغوت).
أما مؤلفاتي المنشورة فمنها: الإسلام والغرب/دماء من أجل السماء/ تنشئة الأطفال وثقافة التنشئة/ مغامرة التأويل/ رحلة المعنى.....
وللاطفال: سلاسل كثيرة منها: أحب المدرسة/ حديقة الإيمان/ مذكرات العم صبور: شارك فيها شعرا سليمان العيسى/ سارة تحتفل/ حكايات شعبية/ حكايات من العالم/سلامتك/....

2 – الأستاذ عبد الواحد من هجرة في الوطن إلى هجرة خارجه
     كيف كانت تأثيراتها عليكم ؟

الوطن كلمة ملتبسة بالنسبة لي، كانت تعني في حدها الأعلى البيئة التي نشأت فيها والوجوه التي الفتها، لم يقيض لنا منذ الغضاضة ان نفكر بوطن نبنيه ونعتز به، كنا دوماً نردد ولا نفكر، نحفظ شعارات فارغة لا نجد لها أي معنى في الواقع، وإذا فكرنا كان علينا أن نخفي أفكارنا، والأهم كان علينا أن نلغي مساحة السؤال في ادمغتنا النامية، كنا نستفسر فقط، لا لكي نفهم ما يقال لنا، إنما لنخفي الاسئلة الممنوعة التي تنمو بداخلنا، كنت في الخامسة عشرة عندما كتبت في قصيدة لي: (هي هجرة من مكان إلى اللا مكان)، كل ما كنا نطمح إليه هو أن نخفف من وطأة المكان، ولم يكن الأمر مرتبطاً بغايات أو أهداف نروم تحقيقها، بقدر ما كان مرتبطا بالانعتاق من ظل ثقيل يسمونه الوطن، كنت أسمع من جيلي الاستهانة بكل شيء يرتبط بكلمة وطن، لأن الوطن كان مختزلاً في شخص وحزب يطل علينا من خلال شخصيات أقل ما يقال عنها أنها قذرة وسخيفة وسادية ومتخلفة، كان فكرة الهجرة تنمو مع نمو أدمغتنا وأجسادنا، ولم يكن الأمر ميسورا، وتأخر كثيرا وعندما سافرت بنية الهجرة اكتشفت أن الهجرة ليست مجرد هجرة من مكان، إنماهي هجرة إلى مكان أيضاً، وجدت أن الحياة معقدة أكثر مما توقعت ومحفوفة بارهاصات لم اعتدها، ربما هي أخف مما اعتدت عليه، ولكن ربما يكون المرء مجبولاً على تقبل ما اعتاده من مصاعب، وكما كنت اقول دوماً: إن لم يكن لك وطن فكل المدن تكون لديك سواء، فعدت أدراجي لاعيش في الهامش المتاح، إلا إن هذا الهامش بحد ذاته ضاق علي، وأذكر يوما قالت لي فيه وزيرة الثقافة: بأني خطر على الاجيال الجديدة فقط لأنني كتبت كتيبا بعنوان (التحكم في توجهات الراي العام عبر التربية)، يومها أدركت أني لن اتمكن حتى من التمدد في الهامش المختزل، وحينها قررت الخروج إلى اللامكان، إلى أي مكان ييسر لي أن أحفظ نفسي واسرتي من مغبة الحاجة ومذلة الاستجواب في أقبية الرعب، وهكذا كان ...
في نشأتنا الملتبسة ورثنا أموراً كانت من صنع بيئتنا، فتعدد اللهجات لم يمنحنا لهجة متجذرة، وتعدد الثقافات في محيطنا الضيق، جعلنا قادرين على تفهم أي ثقافة نحتك بها بسهولة أوفر، لذلك تقلبت لهجتنا واهتماماتنا بحسب هجراتنا، الاهتمام بالأمكنة التي نعيش فيها ولو مؤقتاً نزعة جينية أو ربما بيئية معقدة، هذا ما جعل جزءا كبيرا من اهتمامي ينصرف للمكان الراهن، للمكان المعاش، للمكان اليومي، طغيان اليومي على المستقبلي، لم يكن وليد ظرفنا فقط، إنما كان يستند في العمق منه على بنيتنا النفسية التي لم يكن فيها آمال ولا أحلام ممكنة... لم نفكر كثيرا بهويتنا، كانت المعاناة تشكل الجزء الأكبر منها، وامام المعاناة اليومية يصبح التفكير في الهوية من باب الترف الذي لا يجدي، كنا مستسلمين لمظاهر عاطفية وحسب، لأنه كان هناك تمييز ضد كل من لا يخر ساجداً للسلطة ومؤسساتها الفاسدة، وكل من لا يتبنى فكرتها الحزبية الشوفينية، لا أستطيع ان أقول أني هجرت المكان، فثمة قواسم لا تنتهي بين مكان هجرته ومكان آويت إليه، أخف وطأة بكثير، لكن في المنظور الثقافي يمكنني القول أن هجرتي تشبه هجرة المديني المزحوم ، إلى ريف أقل ازدحاماً وأكثر عزلة... مع أن الثقافة كانت مدجنة ومقننة، ولكن دوماً كان هناك فسحات نخترعها لمثاقفات هامشية، تحدونا رغبة الانفلات من الموت في الظلام. لذلك لم تكن الهجرة (إذا جاز تسميتها بهجرة) ذات أثر إيجابي، لأنها كانت هجرة تحت سيف الاضطرار، وليست بمحض الاختيار. كانت هجرة داخل زمن حضاري واحد، وليست من زمن إلى زمن!

3 – أنتم من الشخصيات التربوية التي بذلت جهودا هامة في سورية، وقدمت نقداً بناء، لماذا استنكفتم عن هذا الدرب؟
نعم، قدمت بداية تجربة مباشرة بدأت بشكل من أشكال الهواية والمصادفة، وكانت في بداية سن الشباب، وذخيرتي بضعة كتب قرأتها للمطالعة، فاصطدمت بالعقلية التربوية للمؤسسة الرسمية، ولم أجد فائدة من الاستمرار، حتى وإن كانت علاقتي مؤقتة، فاتجهت نحو المساهمة الفكرية فيما بعد،  قدمت نقداً شاملاً للبنى التربوية المؤسسية والتقليدية، وقدمت الكثير من الدراسات والمحاضرات والندوات لقراءة التغييرات الاجتماعية وأثرها على الممارسة التربوية، واهتممت بشكل خاص بمشكلات الاسرة في ظل مجتمع انتقل من سعة ورحابة الحي التقليدي والقرية التقليدية إلى ضيق وزحام المدينة وعبثيتها وعشوائياتها، لأن الاسرة تبقى اللبنة الأولى في صرح النشأة التربوية، وحاولت جهدي استثمار بعض البنى المؤسسية حتى الفاسدة منها من أجل أيصال رسالتي، فلم أتوانَ عن التعامل حتى مع منظمات السلطة، كالطلائع والشبيبة واتحاد الطلبة عندما استعانوا بي، ولكن لأن صوتي كان نشازاً في معزوفتهم التافهة، قلما كانوا يستعينون بي، في الإطار التربوي لم أوفر منبراً إلا وحاولت استثماره، إلى أن وصل الأمر إلى منع غير رسمي، بسبب ثقافتي (اللا وطنية) وغير المنسجمة مع (التطلعات الثورية والاشتراكية للشعوب التقدمية)، حتى في إطار عضويتي في(اتحاد الكتاب العرب) لم اجد زملاء او مساندين أو مشاركين في الهم التربوي والثقافي إلا نادراً، إنما وجدت انتهازيين ومدعيين وموظفين فاسدين، لم أجد دعما باستثناء جهد طيب من ناشر معروف، لم يكن كافياً مع التضييق علي للاستمرار. المشكلة كانت دوماً طازجة، انت متهم في فكرك وثقافتك ونواياك لأنك لا تسبح باسم السلطان، ولا تنضوي في إطار مؤسسات الولاء له. وهذا الاشتغال التربوي لم أستنكف عنه، وإن خف نشاطي بسبب تغير الظروف، وفي الآونة الأخيرة اهتممت بشكل خاص بالأطفال والثورات العربية، وحاليا اعمل على بحث عن (خيال الما آتا) عن الطفل السوري وصورة السلطة... إضافة إلى أعمال أدبية منها سلسلة من حكايات شعوب منطقتنا، حول التسامح، من المفترض أنها ستصدر بعدة لغات عن عدة دور نشر أجنبية ومحلية.


4 – المعاناة و التهميش مصير كل مبدع و كاتب في بلادنا , فماذا كان نصيبكم منهما ؟

المعاناة والتهميش لم يكن نصيبي منها يختلف عن نصيب غيري ممن لم يرتضوا ظل السلطة ولم يتوسلوا رضاها، الحالة الثقافية كانت مرهونة بيد موظفي سلطة فاسدين، أعطوا لنفسهم وظائف وصفات لا علاقة لهم بها، فكانوا كتابا وفنانين ومفكرين وأساتذة...الخ، دونما أي استحقاق، يدير أحدهم الصفحة الثقافية كإدارة أحد النوادي الليلية، ربما كنوع من الخلط بين عمله النهاري والليلي، أحدهم دخل اتحاد الكتاب وتم توظيفه نادلاً في المقهى ... أخفق في أن يكون نادلاً جيدا، فتحول إلى كاتب وموظف في الاتحاد يتحكم في نشاطات غيره. المؤسسات الثقافية كانت خلال اربعة عقود في عهدة شخصيات لا تملك قدرة على أي ابداع حقيقي أو بحث علمي، ربما ما نالني كان أقل، لأني أحياناً كنت أجد طرقاً لإزاحة هؤلاء من طريقي، من قبيل أن أترك لهم مداخيل أي عمل أقدمه كأن أترك للمسؤول عن الصفحة الثقافية في إحدى الصحف استلام مكافآتي مقابل سرعة النشر والحرص على عدم حذف أي شيء.
في اواسط التسعينات كنت راغباً في لعب دور ثقافي وفكري في حياة الشباب الجديد من خلال التلفزيون، ووجدت منفذا بعد عدد من الحوارات التي اجريت معي حول قضايا تربوية وأدبية، وبالفعل حضرت للأمر ولكن كالعادة تم شطب الموضوع كليا باعتذار هاتفي رخيص ودونما تبرير.
في سورية تحالف أمران على المثقف والكاتب والصحافي وحتى الأكاديمي خلال العقود الاربعة الماضية، الأمر الاول الايدولوجيا البعثية، وهي ايديولوجية سلطوية نازية وربما أكثر لأن معيارها في الترقي كان دوماً القدرة الشخصية على ارتكاب الفساد والاستبداد، والأمر الثاني الطابع الاستهلاكي ونزوع السلطة نحو ترويج ثقافة تهريجية سطحية مدائحية افتخارية، لذلك كان كل من لا يرضى او يساهم في هذين الأمرين مهمشاً معتماً عليه، والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى.

5 – كيف تقيّم مستوى الحراك الثقافي الكردي و مستقبله في سوريا ؟
الحراك الثقافي الكردي في (سورية الحديثة) قديم، وإن كان محدوداً، ثمة تجليات ثقافية كردية كانت تظهر دائماً ضمن الهامش المتاح، تظهر على نحو تظاهرات فلكلورية أحياناً ، ومن خلال مشهد إبداعي (قصصي وشعري على وجه الخصوص) احياناً، ومن خلال رؤى وتصورات  واتجاهات فكرية وسياسية واجتماعية أحياناً أخرى الحراك الكردي الثقافي تنامى منذ بداية الثمانينات مع زيادة عدد الطلبة الاكراد في الجامعات السورية، وظهور طبقة متعلمة وأكاديمية في مناطق زادها اليومي المعاناة والتهميش والتسلط، ونشوء تجمعات ثقافية غير رسمية في المدن الرئيسة كالقامشلي وعامودا، واستطاع الكثير ان يفرض وجوده في كثير من التجمعات الرسمية على الرغم من عدم الترحيب بهم، وظهر على وجه الخصوص شعراء وقصاصون مميزون كانوا في طليعة شباب الثمانينات، هذا المشهد بقي مستمراً ولكن واكبه مشهد فكري متميز من خلال عدد من الباحثين الأكراد الذين كتبوا بالعربية عن الشأن الثقافي الكردي، وكانوا متميزين بمستوى أكاديمي وإنساني وفلسفي راق، بل إن بعضهم استطاع أن يكون حاضرا ومعروفاً على صعيد الثقافة العربية في كل مساحتها الجغرافية، ففي الإطار الأدبي مثلاً يشكل سليم بركات قامة روائية وأدبية متميزة جدا في المشهد الثقافي العربي، فلا أحد يستطيع أن يبزه في لغته المتينة التي كانت في منتهى البساطة والملحمية في رواياته الأولى، والتي ترافقت مع نصوص شعرية مختلفة الأداء والبنية والأفكار إلى درجة الدهشة، لينتصر الشعر الكثيف على لغته الروائية، ويحولها إلى لغة بالغة التعقيد، كذلك إبراهيم اليوسف المميز في شعره ومقالاته، وتميزه في أفكاره وعمقها وبنيتها التعبيرية الشائقة، وفي الإطار الفكري أذكر كمثال: إبراهيم محمود الباحث والإناسي الكردي انتماء والعربي انتاجاً، والذي قدم دراسات إشكالية كانت جديرة بالاهتمام الكبير، والتأثير الواسع، كذلك الباحث الأكاديمي د محمود عباس الذي يقدم وبشكل خاص في الآونة الأخيرة رؤى سياسية وفكرية واجتماعية عميقة مستنداً إلى تخصصه وثقافته وخبرته، هذه مجرد أمثلة على مشهد هو أوسع بكثير، ربما خفف من ألق المشهد التباينات الحزبية التي وسمت المجتمع بشلليات وكومونات ومجموعات متترسة خلف شعارات واجمة.

6 – للوضع السوري اهتمام بالغ لديكم و يظهر ذلك جليا ً من خلال كتاباتكم و أقوالكم
        ما تقييمك لمستوى الثورة السورية  ؟  و ما هي أسس نجاحها  ؟

دون شك ستلقى اهتماما مني كسوري، ذكرت لك في متن هذا الحوار عن الدلالة السلبية لكلمة وطن، حقيقة هذه الدلالة تزحزحت بفضل هذه الثورة، كنت في زيارة لسورية قبل انطلاق الثورة بأسبوعين، كان يدهشني كيف ان الناس لم تخرج ثائرة، كانت يوميات المواطن تعج بذل وامتهان لا نظير لهما بالإضافة إلى معيشة تضيق عليه يوماً بعد يوم، كل مواطن يبدأ يومه بمعارك منذ أن يخرج من منزله إلى أن يعود، حالة حرب نفسية واجتماعية مرهقة، يومها فكرت في وسيلة  لإرسال رسالة للسلطة بأن تخفف من استبدادها وفسادها، لكن البنية الأمنية المحكمة للسلطة لا يمكن التعامل معها ولا مناصحتها ولا هي ترى المتغيرات بغير عين التبجح والعنجهية،  كنت أتمنى ألا تقوم الثورة في تلك المرحلة لإدراك مني أن النظام في سورية ركيزة اساسية في آمان وسلامة المشروع الغربي في المنطقة، على الرغم من البروباجندا الرسمية والردح الإعلامي الرخيص لما يسمى بمحور المقاومة والممانعة.
لكن بعد ان بدأت الثورة كان لابد لي أن أنحاز إليها كلية، لأنها ثورة واضحة الهوية والأهداف، ثورة ضد الاستبداد والفساد، ثورة حرية وكرامة، كان الأمر مذهلاً في البداية، وتحول إلى طابع ملحمي، واليوم يكاد يصنف في إطار أسطوري، أمام سيل الدماء والجرائم الوحشية التي ارتكبت، يكون الحياد جريمة، ومع مقتل الأطفال بسكاكين همج النظام تتحول دعوات الحوار والتسامح إلى ما يفوق الجريمة بحد ذاتها. هناك منعرجات خطرة تميل إليها الأحداث مكرهة أحياناً ومدفوعة بأسباب شتى أحياناً، لا شك ان الحرب الأهلية قائمة، لكن التعمية عليها والتحذير منها مجرد لعبة لإثارتها أكثر، فالمطلوب في سورية اليوم، وفي الرؤية السياسية للغرب تجاه الدول الإسلامية عامة، نظام قوي ودولة ضعيفة، نظام يضبط التحولات الاجتماعية ويكبت إمكانيات النمو الحضاري والعسكري الذاتية، ودولة هشة لا تصمد امام رغبات الخارج، ولا معادلاته الرامية إلى استنفار الهيمنة وليس التنمية. بدون شك نحن أمام أجندات دولية وإقليمية، وهي تلعب دوراً مهماً في تنمية حوافز الصراع الداخلي والحرب الأهلية، مما يستدعي البحث في جوانبها وتعريتها كمحاولة للوقوف في وجهها وعدم الانجرار إلى أفخاخها، لا شك أن المهمة تبدو مستحيلة ولكن علينا أن نحاول بدأب، وخاصة أننا نلمس بجلاء قدرة عالية على الضبط من قبل الجموع الثائرة التي تحاول بجدية مفرطة ألا تدخل هذه المتاهة، هناك واقع يصنع الحدث، ويربك المخططات والحسابات، وهذا الواقع هو أملنا الوحيد، لأن كل المعادلات الخارجية لها أهدافها ومطامعها، هذا لا يعني عدم الاستعانة بأي جهد خارجي، بل أن يأتي هذا الدعم ضمن السياق الذي يلائم شعباً يطلب حريته وكرامته، وبما يدفع الاستبداد والفساد الذين جعلا مصيرنا دوما بيد الآخرين.
الاحلام الكبيرة لا تأتي بغتة... تحتاج إلى جهود مضنية ومخلصة، الثورة السورية تقدم أمثولات تاريخية، ربما تعيد السرديات التاريخية وتغير من أمثولاتها المدونة، هناك مظاهر مدهشة، في الوعي والتعاون وتجاوز الإحن والأحقاد، تتمكن كثيراً من إرباك القدرة التحريضية والإشغابية لنظام الف الاستقرار على أنقاض الآخرين. هذه الثورة تحمل عوامل نجاحها في داخلها، ولأنها واعدة نجد أن النظام العالمي بأكمله يكيد لها المكائد ويحاول إجهاضها بشكل فعلي على الرغم من كل التصريحات والسياسات المواربة، هذه الثورة ستنجح، قد يستغرق نجاحها زمناً أطول من زمن إسقاط النظام، لكن التجارب التاريخية لسورية الحالية مع قلتها تثبت أن إسقاط الطغيان كان دائما مترافقاً مع صعود النبرة التسامحية التي لم تفوت محاسبة القتلة، ولم تتورط في نقمة لا معنى لها ولا مسوغ يسوغها، الأطياف السورية بقيت على مدى قرن كامل تنزع شوكها بنفسها، فيما كانت السلطة تحاول إذكاء الصراع، كانت الفعاليات الاجتماعية والرمزية تبذل جهداً مضاعفاً لوأد أي فتنة تطل برأسها...

7 – كيف ترى الدور الذي يلعبه الكرد في الثورة السورية ؟ و ما هي رؤيتكم المستقبلية لمطالبهم و حقوقهم ؟
الاكراد أول من انتفض في وجه السلطة لأسباب وطنية، تم تفسيرها كنزعة انفصالية من قبل السلطة لتأليب بقية مكونات الشعب السوري عليها، لكن الأكراد لبوا نداء درعا وحمص وبقية المدن السورية في  بداية الحركة الاحتجاجية، في لفتة زاهية وموقف تاريخي مؤثر، لم يقف الأكراد متفرجين عندما تعرض أبناء الوطن للقتل والقمع، مع أنهم دوماً كانوا بلا سند في وجه السلطة، مما جعل كل مكونات الشعب السوري يشعر باحترام شديد تجاههم، هذا الدور الكردي الجميل الحافل بالتضحيات والتحدي يشكل اواصر صلة إنسانية بقيت تتنامى باضطراد خلال خمسة عشر شهراً، وهو دور يزيد الأمل بالخلاص من الاستبداد توهجاً ويقيناً، فكل الأحلام العامة والخاصة تبدأ بانتهاء الاستبداد، ولن تبدأ ما لم ينته، لا شك ان السلطة انتبهت للدور الكردي الخطير عليها، فسارعت إلى محاولة تشتيته، وأظنها أفلحت بعض الشيء، لأن هذا الدور انكفأ نسبياً، واشترك مع السلطة وبكل أسف بعض أقطاب المعارضة، وبعض قادة الحراك الكردي، في جدالاتهم حول الفيدرالية واللامركزية وكل ما يتعلق بوضع الأكراد بعد سقوط النظام، لا شك ان بحث هذه الأمور هام جداً، لكن بدون أن يخفف من الاصرار والعزم على إسقاط النظام، المشكلة في الأصل هي فقدان الثقة، فقد عملت السلطة على إذكاء الشكوك والارتيابات، وغذتها باستمرار من خلال مساراتها التسلطية والقمعية، ولطالما استخدمت سياسة ضرب المكونات السورية بعضها ببعض، مما جعل مسألة الثقة تتراجع بحدة، للأسف المعارضة السياسية في الخارج لا تعالج هذه المشكلة بحكمة، لذلك نجد لها تأثيراً كبيراً على الأرض.
هناك بالتأكيد واقع حزبي أيضاً يشتت الأكراد، فالمنضوين في إطار الأحزاب يخلصون لأحزابهم أكثر من إخلاصهم لقومهم، ويتصدرون بأجندات حزبية، لا أجندات قومية أو وطنية، والحال أن واقع المنطقة (الكردية) حافل بالتناقضات والوقائع والظروف التي يتم تجاهلها، مع أن تجاهلها يفتح بوابات الصراع، وهذا ما يجعل التعاون بين مختلف الاثنيات في هذه المناطق اكثر صعوبة يوماً بعد يوم، بالنسبة لي أعتقد ان الحل يكمن في الواقعية السياسية والاجتماعية، دون التخلي عن الحقوق الأساسية، ولا يمكن تحقيق هذه الواقعية دون الإقرار بأولوية الأجندة الوطنية، ودون إهمال الأجندة القومية، أعني ان يسترد الأكراد كل حقوقهم التي سلبت منهم لعقود، وان يحظوا بالمواطنة المتكافئة مع بقية المكونات السورية، والاعتراف بحقهم في إختيار نوع علاقتهم بالدولة، بما يتلاءم مع الرغبة الواسعة والأكثرية في مناطق تواجدهم، وذلك من خلال عمليات تصويت واستفتاء لا تستبعد أي مواطن باختلاف ارومته العرقية او الدينية. على ان يكون سقف هذه المطالب لا يتجاوز مسألة الانتماء إلى الوطن السوري، وهذا الرأي أتبناه من خلال رؤيتي التي تركز على الطابع الإنساني والحقوقي العام للدولة، فالدولة بمفهومها الأرقى والأكثر تحضراً في راهننا تتجاوز المحددات القومية والدينية، وتتبنى التنوع والتعدد كقوة لها، لا نقطة ضعف تتهددها. هناك بالتاكيد معاناة كردية خاصة، لكن المعاناة السورية العامة جديرة بأن تشكل هوية مشتركة لا تلغي الثقافات الخاصة والحقوق الكاملة لكل فئة من فئات السوريين وبما يتيح لهم العيش ضمن عقد اجتماعي وسياسي وثقافي متفق عليه. الأكراد هم النسيج الوحيد في المنطقة الذي لم يطمع ولم يغز الآخرين، لذلك فإن المطلوب من غيرهم (لا منهم)، أن يطمأنوا الاكراد وأن يفكروا بجدية تعويضهم عن تاريخ من الاضطهاد الممارس بحقهم في كل أوجه الحياة.