انحسار اللغة العربية في كردستان

2012-06-17

           (( تكريد )) الثقافة من ملامح تشكيل الدولة القومية

أربيل: شيرزاد شيخاني
يضمن الدستور العراقي بالمادة الرابعة حق العراقيين في استخدام لغتهم الأم في التدريس والثقافة، مشيرا إلى أن «اللغتين العربية والكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق. ويعترف الدستور أيضا باللغات التركمانية والسريانية والأرمنية.

وتفرد الفقرة (ثانيا) من المادة المذكورة اللغتين العربية والكردية كلغتي التكلم والمخاطبة والتعبير في المجالات الرسمية كمجلس النواب ومجلس الوزراء والمحاكم والمؤتمرات الرسمية». وتقر الفقرة «الثالثة» اللغتين لاستعمالهما في المؤسسات الاتحادية والمؤسسات الرسمية في إقليم كردستان.

من هذا المنطلق الدستوري أصدرت وزارة التربية بالحكومة العراقية مؤخرا قرارا يقضي بتدريس اللغة «الكردية» في مناهج التعليم بمناطق العراق كافة اعتبارا من الصف الخامس الإعدادي (الثانوي) بكل أقسامه العلمية والأدبية والمهنية، وفي معاهد إعداد المعلمين والفنون الجميلة. ويفترض أن ينفذ هذا القرار اعتبارا من السنة الدراسية القادمة. وأشار حسين الجاف، مدير عام التعليم الكردي بوزارة التربية العراقية، إلى أن «هناك 1554 مدرسة بحدود محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين والموصل (وهي المحافظات المتنازع عليها المشمولة بالمادة 140) تعتمد مناهج التعليم باللغة الكردية بكل مراحلها». ويشير الجاف إلى أن «عدد تلك المدارس قبل سقوط النظام السابق لم يتجاوز حدود 50 مدرسة فقط في جميع أنحاء العراق خارج إقليم كردستان».

هذا التزايد الملحوظ في عدد المدارس التي تدرس اللغة الكردية، والقرار الجريء الذي أصدرته وزارة التربية بتعليم طلبة العراق اللغة الكردية، اللغة الثانية الرسمية في العراق، يقابله انحسار واضح في تدريس اللغة والثقافة العربية بكردستان بعد عقود طويلة من تسيدهما على المنطقة. لكن منذ تحرير كردستان عقب انتفاضة عام 1991 وانغلاق الحدود بين الإقليم ومدن العراق الأخرى، والاستقلال الذاتي الذي تحقق للأكراد بإدارة مناطقهم بعيدا عن سطوة النظام المركزي، شجع السلطات المحلية على المضي قدما في «تكريد» مناهج التعليم. لكنهم مع سقوط النظام السابق، أطلقوا العنان لطموحاتهم القومية حتى وصل الأمر بقيادتهم إلى حد المطالبة بحق تقرير المصير، فعملوا بموازاة جهودهم لتكريد التعليم، إلى تكريد الثقافة أيضا، فانتشرت مئات الآلاف من الكتب والروايات والنتاجات الأدبية والعلمية العالمية المترجمة إلى اللغة الكردية بمكتبات الإقليم، إلى جانب صدور أكثر من ألف مطبوع ومئات القنوات الإعلامية باللغة الكردية.

وكما يقول عمر رضا، وهو معلم كردي «تكريد الثقافة ملمح من ملامح تأسيس الدولة الكردية. وهو سعي من قيادة الإقليم لبناء الشخصية الكردية المميزة وتدعيم الاحتفاظ بالهوية القومية للشعب الكردي». ويواجه هذا المعلم الكردي صعوبات كبيرة مع طلاب صفه خاصة عند تدريس اللغة العربية. ويقول «في العقود السابقة كان أطفالنا يتلقون عبر وسائل الإعلام (التلفزيون والراديو) وحتى مجلات الأطفال ثقافة عربية، ولذلك لم تكن هناك صعوبات في تدريس العربية لأنها كانت جزءا من الحياة اليومية، بل إنه كانت هناك مدارس تدرس اللغة العربية حصرا بجميع المواد، ولكن اليوم انعدمت هذه الثقافة الخارجية، والطفل بالكاد يسمع شيئا باللغة العربية، ولذلك فهو لا يمتلك أي خلفية تساعده في فهم واستيعاب درس اللغة العربية وهو درس وحيد في جميع الصفوف».

ويصارحنا نجدت عبد الله، وهو أيضا معلم، بالقول «دعني أصارحكم بأن الجو العام هنا في كردستان خلق نوعا من اللامبالاة بتدريس أو إشاعة اللغة والثقافة العربية. ولا تنس أن أبناء هذا الجيل بالكاد يذهب أحدهم إلى مدن العراق الجنوبية أو الوسطى، فلم تعد هناك حاجة لمراجعة دوائر الدولة ببغداد بعد استقلال إدارتنا، حتى إنه في السنوات السابقة كان البعض من أهالي كردستان يذهبون إلى بغداد لمراجعة الأطباء. لكن اليوم معظم أطباء العراق الكبار مستقرون في أربيل والسليمانية، والناس يأتون من بغداد إلى هنا. هذه الأمور كانت تساعد في السنوات السابقة على تكوين نوع من الثقافة العربية لدى الكردي، لكن اليوم لم يعد لها وجود بانغلاق المجتمع الكردستاني على نفسه».

وفي جولة لـ«الشرق الأوسط» بمكتبات الإقليم، خاصة مكتبات الأرصفة، تم رصد غياب كامل لأي مطبوع عربي معروض، حتى قصص الأطفال وحكايات سمير وعلي بابا وغيرها من الأساطير التي كان يقرؤها معظم شباب اليوم في طفولتهم، باتت اليوم كلها مترجمة إلى اللغة الكردية.

المشكلة أن اللغة الكردية تعاني من انقسام حاد في اللهجات، فهي تفتقر إلى لهجة أو لغة موحدة، وهي أحد أهم مقومات الهوية القومية الموحدة، فالكردية تعاني من مشكلة تعدد اللهجات حتى في مناهج التعليم والتدريس، وهناك لهجتان معتمدتان في مناهج التعليم هما «اللهجة البهدينانية» التي يتحدث بها سكان محافظة دهوك وبعض أقضية محافظة أربيل، و«اللهجة السورانية» المعتمدة في مناطق أربيل والسليمانية. ولم يتفق الأكراد لحد الآن على لهجة موحدة أو لغة جامعة كما العرب، يفهمها الكل ويتخاطبون بها، ومما زاد الطين بلة أنه حتى القنوات الإعلامية (صحافة وتلفزيونا) باتت تعتمد اللهجتين بدل التركيز على لهجة جامعة واحدة.

وروى أحمد شكر، لـ«الشرق الأوسط»، حكاية طريفة في هذا المجال وقال «حجزت موعدا بمركز طبي تركي في أربيل، وقبل أن أراجعه سألت ما إذا كان لديهم مترجم، فقيل لي إن هناك مترجما. فذهبت إلى المركز الطبي ووجدت أن المترجم يتحدث باللهجة البهدينانية كونه من محافظة دهوك، فطلبت من المركز أن يأتوني أولا بمترجم حتى أفهم من هذا المترجم الكردي ما يترجمه من التركية»! يصادف تلامذة السليمانية مشكلة كشفها لـ«الشرق الأوسط» طه محمد حين قال «ابنتي تدرس في الصف الخامس الابتدائي، أعطوها واجبا بيتيا عبارة عن نص من الإنشاء باللهجة البهدينانية، فلجأت إلى أحد معارفي لكي يترجم لها ذلك النص لأنهم أبلغوها بأنها ستأخذ عليها درجة في الامتحان» المثير للعجب أن طه كان يطلب ترجمة نص كردي إلى نص كردي! والمفارقة الأغرب منها هي ما نقله أحد نواب البرلمان العراقي الذي اشترط عدم ذكر اسمه حين أشار إلى أن «هناك عددا من نواب البرلمان العراقي من التحالف الكردستاني لا يجيدون اللغة العربية كما هو مطلوب، في حين أنهم يناقشون قوانين تصدر في البرلمان العراقي باللغة العربية». ويقول «الآن هناك عدد قليل من أبناء الجيل السابق ممن يعرفون ويجيدون اللغة العربية، لكن بعد عشرين سنة أتوقع انحسارا كاملا لهذا العدد. فتكريد الثقافة كما يجري حاليا في كردستان، وإطلاق العنان للمشاعر القومية والاعتزاز بالهوية القومية، سيؤدي في المحصلة إلى نشوء جيل بالكاد لا يفهم لغة الضاد إلا عبر مترجم»!