الشرق الاوسط : لا ندم في دمشق .. و دموع تماسيح في موسكو !

2012-06-04

«محاولة التحاور مع شخص تخلى عن أي منطق أشبه بإعطاء الدواء لجثة هامدة».

(توماس باين)
ساعة ثقيلة جدا مضت علي يوم أمس وأنا أتابع خطاب الرئيس بشار الأسد في افتتاح أعمال مجلس الشعب السوري الجديد.
لقد تابعت المحاضرة التلقينية الديماغوجية و«التشريحية» بألم وأسى.
ومر في بالي أثناء المحاضرة شريط قصة مأساوية حقيقية حصلت في إحدى القرى القصية في جرود جبل لبنان «بطلها» فلاح قتل ابن أخته بفأس إثر خلاف على دخول عنزة يملكها ابن الأخت إلى بستان الخال.
بعد الجريمة البشعة حكم على الخال القاتل بالسجن المؤبد، ولكن لـ«حسن السيرة والسلوك» أفرج عنه بعد مرور 15 سنة. وخلال رحلة العودة إلى قريته برفقة عدد من أقاربه عطلت حالة الطقس السيئة مسيرة الحافلة فتوقف مع الأقارب في قرية مجاورة ليبيتوا ليلتهم في بيت بعض المعارف والأهل. وهناك على مائدة العشاء، أمام الموقد، بادر صاحب البيت ضيفه القاتل المفرج عنه بكلمات تجمل وتعاطف، انتهت بالقول كيف أن الشيطان يوسوس للناس فيقودهم إلى ارتكاب خطأ يندمون عليه لاحقا. وتابع أنه يقدر كم يشعر ضيفه بالندم على قتله ابن أخته، ومن ثم، على ضياع 15 سنة من عمره أمضاها خلف القضبان. غير أن القاتل انتفض بغضب بمجرد سماعه هذا الكلام، صارخا «نادم! على ماذا؟! أنا لم أكن على خطأ. لقد هددته بوضوح بأنه إذا سمح للعنزة بدخول البستان فإنني سأقتله، لكنها دخلت! كيف ألام إذن على قتله؟!».
عودة إلى الرئيس الأسد، الفخور بحمله شهادة الدكتوراه في الطب والجراحة - بدليل استشهاداته الطبية الدائمة - يبدو لي أننا أمام اللامنطق نفسه. فالرئيس السوري، لم يتعظ بعد بما حل بزملائه السابقين صدام حسين وزين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح، وطبعا «شريكه» الممانع في «النضال ضد (القاعدة)» معمر القذافي.
إنه مصر على الصورة السرابية التي اختار ترويجها للانتفاضة الشعبية السورية، منذ البداية، يوم كتب أطفال درعا على جدرانها عبارات لم يسامحهم عليها المسؤول الأمني المحلي السيد عاطف نجيب.
بعد 14 شهرا من القتل والخطف والإخفاء والتدمير لم يندم «السيد الرئيس» على شيء. إنه ما زال مقتنعا بأنه جراح يعمل في غرفة عمليات مهمته الاستئصال.. وهنا نحن بصدد استئصال «الإرهاب»!
«استئصال الإرهاب» كان حتى الأمس القريب عبارة تكثر من استخدامها إسرائيل و«القوى الإمبريالية» حسب وصف إعلام الممانعة في دمشق، تماما مثل كلمة «المخربين». وكان «الممانعون» في دمشق يستشيطون غضبا لتعمد واشنطن اعتبار «المقاومة» المشروعة و«النضال ضد الإمبريالية»، «إرهابا». ولكن فجأة هضمت دمشق كلمة «الإرهاب» كما استساغت استخدام كلمة «المخربين».. وصار «الإرهابيون» و«المخربون» العدو الألد لنظام الممانعة غير الممانع والمقاومة غير المقاومة.
ولم يكتف الرئيس الأسد بهذا، بل شاهدنا كم هو حريص على تنصيب معارضة برلمانية «زخرفية» تابعة ومأجورة يستخدمها للتمويه والتضليل حيث تدعو الحاجة. وهذا، مع أنه ما كان مضطرا لفضح بعض هؤلاء من الذين يصفون أنفسهم بـ«معارضين» و«تقدميين».
ربما كان أشرف بكثير لبعض الوجوه التي تدعي أنها قيادات لتيارات وأحزاب سياسية «معارضة» - ولو كانت جزءا من ديكور «الجبهة الوطنية التقدمية» البائس - ألا تترشح لدخول مجلس الشعب الجديد جنبا إلى جنب مع «شبيحة» النظام المفضوحين إعلاميا وشعبيا.
كان أفضل لهؤلاء أن يظلوا خارج المجلس لمواصلة جولاتهم الخارجية التضليلية الهادفة إلى إرباك المعارضة والتشكيك بوحدة أهدافها.
ولكن ما العمل مع رئيس ينتمي إلى مدرسة الديكتاتوريات العربية ذاتها.. مدرسة الاجتثاث والاستئصال، واحتكار الوطنية والممانعة، ومناهضة الاستعمار.. وطبعا - على رأس القائمة - مواجهة الطائفية والطائفيين (!) من منطلقات طائفية مضادة؟!
أذكر أنه عندما تولى الرئيس بشار الأسد الحكم قبل 12 سنة، وهذه مدة تعادل ثلاث فترات رئاسية أميركية، سألت صديقا سوريا - رحل الآن عنا - عن شخصية الرئيس الجديد، فأجابني بمرارة «ليس ساذجا كما يظنه الناس، ولا هو ذكي كما يظن نفسه». وبمرور الأيام تأكد لي صدق كلام صديقي - رحمه الله. فهو اختار سياسة المواجهة المباشرة من دون أن يحاول أن يفهم أن الظروف التي ساعدت الأسد الأب على سحق انتفاضة حماه في مطلع عقد الثمانينات تختلف جذريا عن ظروف انتفاضة الشعب السوري في طول البلاد وعرضها اليوم. غير أن خيار المواجهة اليوم، وهنا لا أدري إن كانت كلمة «خيار» دقيقة، يرتبط باعتبارات عدة خدمت المشروع الدموي للنظام. فإسرائيل متحمسة جدا لتدمير النسيج الداخلي لسوريا والمنطقة عبر استقطاب تفجيري طائفي - عرقي لا يبقي ولا يذر. والإدارة الأميركية، التي لا تخرج عادة عن التصور الإسرائيلي العام في ما يخص المنطقة، منشغلة بحملة انتخابات رئاسية لا تريد خلال الأشهر المتبقية منها أن ترتكب هفوات مكلفة. والقيادة الروسية الجديدة - القديمة، بصلفها القيصري الفاقع الذي شاهده العالم في مراسم تنصيب فلاديمير بوتين، ما عادت ترضى بأقل من مقايضة مربحة ما في علاقاتها مع قيادة أميركية عديمة الطعم واللون والرائحة. وإيران، صاحبة المشروع الإقليمي الطموح، تعلمت منذ بعض الوقت أن «الهجوم خير وسائل الدفاع»، وأن مقارعة الخصوم خارج أرضها أفضل لها من مقاومتهم في شوارع مدنها وحقول قراها. وهي اليوم تطبق استراتيجية «شفير الهاوية» هذه بدقة.
الرئيس الأسد، عمليا، لا يريد أن يعترف أنه مجرد بيدق شطرنج صغير في لعبة غدت أكبر منه بكثير. والسؤال الوحيد المطروح هنا هو: هل كان بمقدور الرئيس السوري في أي وقت من الأوقات خلال السنوات الماضية أن يتصرف بصورة مغايرة؟ هل كان «سيد نفسه» حقا على الأقل منذ مطلع عام 2005، الذي اضطرت فيه دمشق لسحب جيشها من لبنان، تاركة الهيمنة عليه لإيران مباشرة؟
حاليا لا خلاف على أن الدور الإيراني ورقة مقايضة ابتزازية لموسكو مع واشنطن، وأن الواقع السوري أيضا ورقة مقايضة إيرانية - روسية مع تل أبيب وواشنطن. كذلك فإن سياسة «الأرض المحروقة» التي اعتمدتها القوات العسكرية للنظام السوري تشكل رسالة من الكتلة المصلحية المتحكمة بنظام دمشق، وامتداداتها اللبنانية، على أن النظام جاهز للذهاب بعيدا في التهديد بالتقسيم عبر التطهير الفئوي والمذهبي.
أخيرا، في بداية الانتفاضة السورية كانت الانتفاضة شعبية وسلمية. ولكن دموية النظام المستقوية بـ«الفيتو» الروسي - الصيني أطالت أمدها. والعالم جرب وأدرك أنه في إطالة أمد الانتفاضات الشعبية استدعاء خطير لكل أنواع اللاعبين.
وبالتالي، عندما تذرف موسكو اليوم دموع التماسيح وتحذر من خطر انزلاق سوريا نحو الحرب الأهلية.. فعليها أن تقر، ولو ضمنيا، بأنها وراء تلك الحرب، وأنها مع بكين تتحملان مسؤوليتها سياسيا وأخلاقيا.. إن بقيت بقية من أخلاق.
 
اياد ابو شقرا