الجربوع (الجردون) ..
وتمضي بنا الشهور والسنين ونحن نتردد على ذلك المبنى الضخم.. مدرسة عربستان.. وهي تشبه قلعة تأوي ألوانًا من الطلبة والمعلمين والإداريين.. من شتى أصقاع مدينتنا الحبيبة.. ويتحكم فيها الروتين اليومي.. طابور صباحي.. ثم الصعود إلى الفصول.. وكذلك الخروج منها.. على شكل أفواج متلاطمة من الطلاب لكثرة أعدادهم.. ما بين صراخ هنا وضحكة هناك.. وأما المدرّسون (المعلّمون) فهم أيضًا جزء من هذه المنظومة العشوائية.. يتحركون من غير إرادة.. فترى في وجوه بعضهم هموما غائرة وبعيدة.. وترى الآخرين يغطّون على مآسيهم بالتحدث إلى الطلاب وتبادل النكت معهم للتنفيس من الواقع الأسود الذي يعيشه الصغار والكبار..
وفوق كل ذلك.. لا بد من لحظات للمغازلات الوطنية التي لا يستطيع أحد تفاديها أو الغياب عنها.. والتي تتمثل في الوقوف لتحية العلم في صباح كل يوم.. وقد سبق أن تطرقت إلى طقوس تحية العلم وروتينه من عدة جهات.. وأودّ أن أعرض لكم في هذه الخاطرة مشهدًا طريفًا جدًا حدث في إحدى صباحاتنا المدرسية الباردة أثناء تحية العلم..
حيث كان (مدرب الفتوة) مشغولاً بترديد الشعارات والإيعازات العسكرية للطلاب.. وكان الصمت يسيطر على الساحة الرئيسة للمدرسة.. وباحاتها وممراتها.. وحتى على الشوارع من حولها.. لأن مدرّبي الفتوة كانوا قد أعطوا صورة للطلاب عن تحية العلم أنها لحظة مقدّسة تشبه الصلاة (معاذ الله).. يحرم فيها الكلام والحركة والالتفات إلا عن طريق الإيعاز العسكري.. ونحن في تلك اللحظة المقدّسة (كما يزعمون).. وإذ بنا نسمع صوتًا قويًا من أحد الطلاب في وسط الجموع المصفوفة يقول: جربوووووع .. ثم تلته أصوات أخرى: جربوع.. جربوع.. جربوع.. حتى عمّت هذه الأصوات والحركة بين جميع الطوابير.. وتفرّق الطلاب واختلطت الصفوف ببعضها.. ومدرّب الفتوة ينادي بهم: يا حيوانات نحن في تحية العلم.. لم يلتف أحد إلى صرخاته.. لأنهم مشغولين بمطاردة الجربوع الذي خرج خطأ في التوقيت الخطأ من دورات المياه إلى باحة المدرسة.. (ربما كان خروجه مقصودًا لحضور تحية العلم)..
أصبح هذا الجربوع مثل الكرة تتناوله أقدام الطلاب.. يقذفون به في كل اتجاه.. كل واحد منهم (يشوته) ببوطه القاسي الذي يكسر بها الصخور .. فيتحول إلى مجموعة أخرى لينال منها نصيبه من الضرب.. وهكذا.. وأما المدرّسون فكانوا أكثر الحاضرين فرحًا وسرورًا لمشاهدة هذا الفلم الكوميدي المجاني في باحة المدرسة.. وبعد عدة دقائق انتهت هذه المعركة غير المتكافئة بين مئات من الطلاب اللابسين أقسى أنواع الأحذية وبين ذلك الجربوع الأعزل لوحده.. بسقوط الجربوع شهيدًا في إحدى زوايا مبنى المدرسة بعد أن تلطخ جسمه بالجروح والدماء..
بعدها اجتمع الطلاب حول مدرّب الفتوة لامتصاص غضبه لأنهم يعرفون ما ينتظرهم من عقاب أليم.. فتفلسف بعضهم للمدرّب: أن الجربوع حيوان مؤذي وخطير وإنه ينقل الأمراض المميتة إلى البشر.. ثم أعقبهم البعض الآخر بقولهم: يا أستاذ والله هذه مهزلة أن تكون في المدرسة (جرابيع) وسوف نشتكي للوزارة.. وامتزجت التوسلات مع التشاكي وشيء من المجاملات والمدارات حول المدرّب.. وكل ذلك من أجل دفع العقوبة عن أنفسهم.. لأنهم لم يكمّلوا تحية العلم.. وبين هذا الضجيج والعجيج.. قال المدرّب بصوت عال: خلاص يا حيوانات اذهبوا إلى صفوفكم وإذا تكرر هذا الأمر مرة ثانية سوف أمسح الباحة بظهوركم وبطونكم.. فتهلّل الطلاب راكضين إلى صفوفهم والقهقهات تعلو الأجواء من فوق رؤوسهم..
كان ذلك اليوم.. يومًا دراسيًا مميزًا.. حتى صارت قصة الجربوع حديث الساعة بين الطلاب والمدرّسين أثناء الحصص الدراسية..
ملاحظة: الصحيح أن اسم هذا الكائن هو: جردون.. لأن الجربوع هو كائن آخر يكثر في البراري.. .. وشكله جميل.. يشبه الكنكر ولكن بحجم صغير.. رأيته كثيرًا في صحارى السعودية..
والسلام عليكم ..
والله قصة حلوة يا اخ صوار....
احيانا مخلوقات صغيرة بحجمها لكن قوية بفعلها مثل الجربوع الشهيد(شهيد تحية العلم) استطاع ان يكسر الروتين الذي لم تكسروه لا انتم ولا المدرسين ولا حتى نحن.....
مشكور