خواطر من الطفولة الضائعة (10) والأخيرة ..
هذه الحلقة العاشرة من سلسلة (خواطر من الطفولة الضائعة) ولعلّها الأخيرة.. ربما أستأنف الكتابة بخواطر ما بعد الطفولة في الإعدادية وإلى الآن .. أسأل الله أن يعينني على ذلك.. ويمتّع القرّاء بها..
المَصْيَد اليدوي (جطل) .. ويسمّيه البعض نبّالة أو الطوب..
كانت الحياة جميلة بجمال أرواح الناس وبساطة الحياة وقلة الضغوطات المختلفة.. كان أهل الحارة يشكّلون منظومة اجتماعية قوية ومتماسكة.. وكان أدوات الحياة بسيطة على مستوى البساطة في كل شيء .. كانت والدتي مع مثيلاتها من نساء الحارة يخبزن في التنور إما في الصباح الباكر أو قبيل المغرب.. وكان ذاك من أحلى لقاءاتهن .. وكنا نحن الصغار نلعب ونرتع من حولهن ما بين شقاوة أحيانًا حين يلاحق بعضنا البعض في لعبة بسيطة لا تكلف شيئًا .. أو نهدأ قليلاً لنتناول قطعة من خبز التنور ساخنًا من يد والدتي أو إحدى نساء الحارة الطيبات ..
كانت أصوات الأطفال تتعالى في الآفاق في ذلك الحيّز الزمني القصير بين العصر والمغرب.. وسرعان ما تخفت وتتلاشى بحلول الظلام.. ليذهب كل واحد إلى بيته وقد حمل من متاعب النهار وأثقاله ما تجعله يتناول لقمة طعام ليضع رأسه على مخدته العتيدة ويرقد في نومة متواصلة إلى الصباح .. لاستقبال يوم جديد كالأمس في بعض معالمه ومختلفًا في أخرى.. :cry:
ومن بين خواطر تلك الأيام البريئة التي أخرجتها ذاكرتي من بين ذرات الأتربة والأغبرة المتناثرة من حولنا ومن فوق رؤوسنا .. أن أحد إخواني صنع لي ذات يوم (جطلاً) لصيد العصافير والطيور .. ومواد الخام لهذا المَصْيَد هي: أعواد الشجر والبلاستيك الداخلي لعجلة الدراجة الهوائية (السيكل) وكفة الجطل (يكون من لسان الحذاء الموجود تحت موضع الرباط).. وأما نوعية القذائف التي تُرمى بها فهي الحصاة.. والمحترفُ يعرف بحسّه الحصى المناسبة..
وكان أخي هذا - الذي يكبرني سنًّا - بارعًا في صناعة الجطل وصناعة الشراك (خفك أو دحفك).. وبالوقت نفسه محترف وماهر بالصيد.. فكان يتأخر أحيانًا عن البيت ليجلب معه كيسًا مليئًا بأنواع الطيور المصِيدة من الحقول والمزارع ومن فوق الأشجار وغيرها.. لا سيما أيام الشتاء حيث تكثر حركة الطيور .. وخاصة المهاجرة.. التي تقبل صباحًا من جهة الشمال من تركيا إلى الجنوب لتعود قبيل المغرب في الاتجاه المعاكس إلى أوكارها .. وكانت هذه الطيور تحط أحيانًا في السهول القريبة من القامشلي.. وهي فرصة لصيادي الطيور ..
ورغم أن أخي هذا.. كان ينال بعض التوبيخات والكلام من والدي رحمه الله وإخواني الكبار لأن هذا التأخير كان على حساب دراسته.. إلا أن مصِيده كان يشكّل وجبات عشاء لذيذة تصنعها يد والدتي حفظها الله.. :wink:
وكان (الجطل) يسبب إزعاجًا كبيرًا للناس.. ويحدث مشاجرات بينهم في الحارة.. لاستخدامه السيء من قبل الأولاد.. حين يظهرون مهاراتهم في الرمي من خلال تنافسهم ومراهناتهم في رميهم على بعض الأهداف المعروفة حينذاك والمتمثلة في شبابيك البيوت أو أبوابها أو لمبة الكهرباء المعلقة على الباب الخارجي للبيت أو مزاريب ماء المطر أو مواسير الدفايات البارزة فوق سطوح البيوت.. وغيرها من الأهداف التي لم تسلم من قذائف الصبية الأشقياء .. :evil:
ومن أشنع أنواع (الجطل) ذاك المصنوع بدون كفة الجلد .. وهو عبارة عن مطاط قوي مربوط بالقوس الخشبي أو قوس حديدي.. ويستخدم بدل الحصى قطعة صغيرة من السلك تطوى بطريقة فنية.. وتقذف بقوة.. وإصابتها خطيرة وجارحة.. فإذا جاءت في العين فستفقعها لا محال .. وأتذكر أن أحد الأولاد استخدمه للانتقام من مدرِّسته (آنسته) التي رسبته في المدرسة لمستواه المتدني والضعيف.. فوقف في إحدى الزوايا بعد أن استلم شهادته.. وبدأ يترقبها .. إلى أن خرجت فصوّب ضربة في ساقها المكشوف.. وسمعتُ بنفسي صرختها ورأيتُ الدم يسيل من ساقها.. :cry: وأما الولد فلاذَ بالفرار.. :evil:
وأما مغامراتي مع (الجطل) والصيد فكانت ذات نكهة خاصة.. فلم أكن من الماهرين لهذا الفن .. وما كنتُ أقوم به كان محاولات طفولية بريئة بتأثير من بيئة الأولاد من حولي .. فذات يوم وأنا بداخل حوش البيت .. ومعي جطلي .. وإذا بسرب من العصافير يحط على شجرة التوت التابعة للجيران الذي يفصل بيننا وبينهم جدار منخفض وبئر ماء مشتركة .. فصوّبتُ رميتي على عصفور معيّن.. فجاءت على عصفور آخر وسقط على الأرض وهو ينتفض من أثر الضربة.. وحاولت أن أقفز من فوق الجدار للإمساك به.. إلا أن قطًّا منحوسًا خرج فجأة فالتقط العصفور بسرعة وهرب به من باب الحوش.. وصرتُ ألاحقه ولكن من غير جدوى .. :cry:
حزنت كثيرًا على مصيدي الأول .. وعلى رأي المصريين: يا فرحة ما تمت.. ولكن بالوقت نفسه غمرتني سعادة من الداخل لأني صرتُ أثق بنفسي أكثر.. :wink:
وأما الصيد الثاني والأخير في حياتي.. فكان في يوم ربيعي جميل.. حين خرجنا من المدرسة مبكرًا.. لوجود مناسبة وطنية.. وحملت (جطلي) مع بعض أولاد الحارة وخرجنا إلى أطراف المدينة.. وانتشرنا في السهول المحيطة بالمدينة.. وبقينا فترة طويلة ولم يصيد أحدٌ منّا شيئًا.. وبينا نحن كذلك وإذا بسرب من الطيور تقترب منّا لتقطع أجواءنا.. ولكني كنتُ بالمرصاد .. فصوّبتُ بضربة من جطلي نحو السرب في الهواء.. فأراد الله أن تصيب طيرًا من السرب فيسقط على الأرض .. :wink: فأخبرتُ زملائي بصوت عال من شدة فرحي .. واجتمعنا على هذا الطير المسكين المجروح وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.. فأخرج أحد الأولاد من جيبه سكينًا صغيرًا وصدئًا من العصورة القديمة.. فذبحه بطريقته.. ثم نتفناه بسرعة.. وأشعلنا نارًا مما حولنا من القش والورق.. وجئنا بسلك معتّق وعلقناه به وصرنا نمرّره على هذه النار إلى أن احترق بعض أجزائه وبقي الآخر نيًا .. فتناول كل واحد منا جزءًا منه .. وكانت لحظة ممتعة جدًا .. :lol:
ومن أحداث رحلتي مع (الجطل) والصيد .. خرجت مرة في يوم شتوي ماطر.. إلى أرض قريبة من البيت.. ربما أصيد شيئًا .. إلا أن جميع محاولاتي باءت بالفشل .. إلى أن وضع بالقرب مني عصفور أو طير شبيه به.. وكأنه يتحداني.. لأنه لم يأبه بوجودي .. ولم يحسب حسابًا لجطلي.. فصرت أمشي القرفصاء وأتحسس بيدي على الأرض لعلّي أجد حصاة مناسبة لرمي هذا العصفور .. وإذا بعيني تقع على نصف ليرة سورية مطيّنة.. وهو في ذاك الوقت مبلغ لا يستهان به.. فنسيتُ الطير .. ونسيتُ الصيد.. التقمتُ النصف ليرة وجريتُ به بسرعة البرق إلى البيت.. لأبشّر إخواني بهذا الكسب غير المتوقع .. :D
وفي عالم الصيد في ذاك الوقت كانت ثمة ظاهرة سلبية ولا إنسانية يمارسها بعض الأولاد.. فقد كانوا يلاحقون العصافير في أوكارها.. وخاصة الفراخ الصغيرة.. فيبدؤون بعمليات البحث عند أسقف البيوت الطينة وسط النهار وفي حرّ الظهيرة.. فيخرجونها ويكسرون بيضها.. :evil: كان بالفعل عمل غير إنساني.. والغريب في الأمر أن الكبار من الآباء والأمهات لم يمنعوهم من ذلك!!!!!.. 8O
كانت تلك بعض معالم رحلتي في عالم الصيد والتي لم أصيد إلا مرتين فقط.. وفي الحالتين لم يكن بمهارة أو شطارة مني .. وإنما بتوفيق من الله الذي أراد أن يغمرني بسعادة كبيرة.. وهو تصديق لقوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [الأنفال: 17]..
وفيما يلي روابط جميع الخواطر السابقة:
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
http://www.kulilk.com/kulilk/html/modules.php?name=Forums&file=viewtopic...
وتقبلوا تحياتي .. والسلام عليكم ..
جميلة وممتعة هذه الخواطر ...........
تحية للمبدعتين الغاليتين رونيدا .. هيام ..
وأشكركما على قراءة الخواطر ..
ولكني يا رونيدا اكتفيت بهذا القدر خوفًا من أن يملّ القرّاء .. أو تتحول الخواطر إلى مسلسل باب الحارة أو مسلسل تركي كما قال الأخ إبراهيم .. ومن ثم تفقد جمالها وبهاءها .. لأنني بالفعل كتبت الصورة الحقيقية للأحداث من غير زيادة أو تهويل .. وأظنها كافية .. حتى نتمكن من كتابة خواطر ما بعد الطفولة إن شاء الله تعالى ..
وتقبلوا مني أطيب التحايا .. والسلام عليكم ..
ها أنت ذا تذكرني بأيامي مع الصيد بالجطل فقد كنت صيادا ماهرا وكانت البساتين في ضيعتنا كثيفة لذا كانت موطنا و ملجأ للطيور وبالرغم من كوننا نصطاد طوال النها فقد كنا نتجمع في الليل و نأخذ عدتنا من أحجار و بيل وكهربائي وأدوات الشواء و نصيد حتى وقت متأخر من الليل حيث يسهل علينا الصيد كون العصافير نائمة وبالإمكان اصطيادها بسهولة , وغالبا ما كنا نمسك عدة قنافذ ثم نذهب الى النبع لتنظيف الطيور و سلخها و ذبح القنافذ و تقطيع لحمها , ثم اعداد النار للشواء مع الأغاني والنكت والضحك , كم كنا سعداء و نحن نأكل ثمرة ليلة طويلة ,, أشكرك أخي سوار على كل ما قدمته و سلمت أناملك
أظن بأنك بهذه الخواطر قد أحييت الطفولة الظائعة فلكل واحداً منا طفولةً ظائعة وأنا متأكد بأن طفولتكَ قد أصبحت رائعة وشكراً
نرحل ونمظي مع الأيام
وتبقى الطفولة عالقةً في الأذهان
جميلةٌ أم قاسيةُ فلكلن منا أيام
ستمظي وتبقى الذكرياتُ والأحلام
فواللهِ لو تصدق كتبتها الان
لتبقى ذكرى على صفحاتاً
كتبت بدون أقلام
أهديها لك يا أخي سوار وأتمنى أن تكون نهاية سعيدة وأتمنى أن تبدء بكتابة خواطر الحياة الرائعة وشكراً :wink:
تحياتي خالي سوار
و الله بتذكرني بالشقاوا اللي كنا نساويها وقت كنا صغار, في مرة كنت انا و اخوي و ابن عمي نحرق العشب اليابس في الساحات و مرة حرقنا عشب يابس بساحة قدام بيت و ما انتبهنا الشباك كان مفتوح و النار وصلت بسرعة للبيت و كان رح يصل للبرادي بس من الدخان صاحب البيت حس و سكر الشباك و جاب خرطوم طفا النار طبعا مع الشتم و اللعن علينا و ما كان يقدر يلحقنا لانو لازم يطفي النار ................. و الله ستر :mrgreen:
شكرا خال مع المزيد من كريات الماضي السعيد البسيط
الأخ الموقر سوار تحية بعبق الزيزفزن..
بالفعل استمتعتُ بأيام طفولتكَ الجميلة المفعمة برائة وشقاوة وقد ذكرتني بتلك الأيام التي كانت ولازالت محفورة في قاع ذاكرتنا فتجعلنا نعودُ صغاراً حتى ونحنُ في عمر الرجولة لا بل الى أن نصل الى الشيخوخة..
أدام الله عليك الصحة والعافية وأطال بعمرك كي تتذكر دائماً ما يتغلغل في ذاكرتك الرائعة والتي تنثر أريج البرائة الطفولية..
دمتم أخي ودام عطائكم الجميل الذي دخل الى أعماق قلوبنا
تقبلوا مني خالص التقدير والإحترام
محبكم واخوكم ريـوي كربري
لي عودة الى الحلقات الأولى التي فاتتني..
بسم الله الرحمن الرحيم
تحية لك مجددا سوار على خواطرك الرائعة.
عندما قرأت كلمة الاخيرة في العنوان انتابني شعور المودع , وقرأت الخاطرة كلها وكلمة الاخيرة تلاحق كل عبارة اقرأها , اتمنى ان تكمل خواطر الطفولة , فلا اظن انها عشر خواطر فقط , ابحث في الذاكرة وستجد الكثير .
تحياتي لك وبانتظار المزيد
.