تاركاً البصر لأصحابه...أبو صبحي النعسان.. أول ميكانيكي يصلح بسمعه ولمسه

المصدر : مودة بحاح
13/10/2008

عندما تدخل المنطقة الصناعية في دوما، لن يكون من الصعب أن تصل إلى محله المتواضع، ولكن سيكون من الصعب في مكان أن تجده فيه، فهو غالباً ما يكون غارقاً- في إحدى المزارع- بإصلاح محرِّك ما تعرَّض للعطب، لينتقل إلى مزرعة أخرى ويصلح هناك محركاً آخر.
".

هو أشهر من نار على علم، يعرفه القاصي والداني في دوما وجوارها، ويقصده الكثيرون ليصلح لهم ما تعطَّل من محركات من مختلف المناطق المحيطة، وحتى من مختلف المحافظات التي وصلت إليها شهرته، وقدرة أنامله الخارقة على تلمُّس الداء وتحديد العلة في مكانها الصحيح ومن ثم معالجتها.

لم يمنحه الله البصر، لكنه منحه البصيرة النافذة التي جعلته على رأس الكثير من الميكانيكيين، وأعطته ميزات لم يملكها البشر العاديون المبصرون، الأمر الذي دفع العديدين إلى اعتماده كمصلِّح لهم لا يلجأون إلى سواه، وكثيراً ما كان منقذاً للآخرين عندما كانوا يعجزون عن إصلاح محرك ما يرونه ويرون تفاصيله، ليتمكَّن هو وبمجرد سماعه لصوت المحرك وتلمسه من معرفة الداء، تاركاً البصر لأصحابه لينعموا بنعمته، ومانحاً حواسه الأخرى الحرية الكاملة لتساعده على الاستمرار في الحياة والحصول على الرزق.

"بلدنا" سمعت عن أبي صبحي النعسان، الميكانيكي الضرير في دوما، وبعد جهد جهيد من التواصل معه، تمكَّنا من لقائه في إحدى المزارع، ووجدناه حينها منهمكاً في إصلاح أحد المحركات، لنتأكَّد بنفسنا مما سمعناه، ونستغرب من قدرة أنامله على إيجاد البراغي المطلوبة وفكها، ومن ثم تركيبها، وتعيير الزيت دون أن يحتاج إلى سؤال أيِّ أحد والاستعانة بما يملكون من أبصار.

أبو صبحي أكَّد لنا أنه مارس المهنة منذ أكثر من خمسين عاماً، ولم يتمكَّن بالضبط من تحديد البداية الحقيقية لاهتمامه بهذه الحرفة، فهو منذ صغره وجد نفسه يهوى الميكانيك وكل ما يمتُّ بصلة له، وتمكَّن بسبب فضوله واهتمامه من تقديم العون إلى الجوار من الجيران والفلاحين، ممن كانوا يستغربون بداية قدرته على الإصلاح، ويستخفُّون بها ليفاجئهم وهو في الرابعة عشرة من عمره باختراعه لمحرِّك بخاري أذهل أغلب المحيطين ممن اعترفوا له بخبرته.

لم يتمكَّن أبو صبحي من الالتحاق بأيِّ مدرسة بسبب وضعه الصحي وسوء الوضع المادي، ومع هذا فهو اليوم قادر على القراءة باللغة العربية والإنكليزية، وقادر من خلال تلمسه لحروف المحركات قراءة اسم ماركاتها ونوعيتها، اكتسب هذه القدرة من الجيران والأطفال ممن كان يسألهم ويتعلَّم منهم، مخزِّناً كلَّ ما يقولونه أمامه في ذاكرة من فولاذ، يقول: "على الرغم من أنني لم أتخرَّج في أيِّ مدرسة لكنني درست الكثير من العلوم"، وهو ما يمكن أن يلمسه أيُّ فرد وهو يحاوره، فمن الممكن أن يحدِّثك عن الضغط الجوي واختلاف طبقات الأرض والأوكسجين، يوضح :" كلُّ محرك له طريقة خاصة بالإصلاح.. فكلُّ شيء له قاعدة، ويجب فهم هذه القاعدة وتطبيقها، أنا أعيِّر المحرك على طبقات الجو والأرض، فالأرض المرتفعة لها درجة، والمنخفضة لها درجة، والحرارة تختلف فيها، وكذلك أشعة الشمس والبرد والأوكسجين، كما أنَّ ماء البحر يختلف عن الماء العادي، وأنا أعيِّر المحركات وفق هذه الشروط، فعندما آخذ المحرك إلى مكان آخر قد لا يشتغل لاختلاف الظروف البيئية".
من يكذِّب قصة أبي صبحي أكثر ممن يصدِّقها، على الرغم من أنَّ إرادة الله لا يحول دونها أي شيء، ويبرِّر ذلك قائلاً: "عندما يعطي الله لا يسأل" موضحاً أنه اليوم وبفضل أمانته ومحبة الناس له، اكتسب شعبية كبيرة وشهرة كبيرة دفعت الكثيرين ومن مختلف المحافظات السورية إلى التعامل معه، ويقول: "لقد جلت كافة المحافظات السورية من دمشق إلى ريفها واللاذقية وحمص وطرطوس"، ويضيف: "وأنا لا أستطيع أن أردَّ أيَّ أحد يطلب مساعدتي، حتى لو كنت متعباً أو جائعاً، وحتى إن لم يقدِّم لي أجري كاملا، أو يمنحني أيَّ أجر".
على الرغم من أنَّ أبناء أبي صبحي تعلَّموا منه الحرفة، لكنهم مازالوا دونه بكثير في الخبرة، ولم يمرُّوا بالتجارب التي مرَّ بها هو فيقول: "أصلح مختلف أنواع المحركات - ديزل، بنزين، كبير، صغير، تبريد، محرك بحري، بري- كلها أعرف إصلاحها وسبق أن مرَّت عليَّ، كما أنني أستطيع أن أصلح المحركات القديمة التي لا يعرفها الجيل الحالي، ولم يعاصرها".

شهادة

أوضح أحمد وهو مزارع في قرية بيت سوا حيث التقينا أبا صبحي، أنَّ أبا صبحي "معجزة حقيقية ويملك قدرة لا يملكها البشر العاديون، وكثيراً ما يلجأ إليه عندما يعجز المصلحون المبصرون عن التعامل مع المحركات الميؤوس منها، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلى التعامل معه، ومنهم بعض مؤسَّسات القطاع العام"، وأوضح أنَّ أكثر ما يميِّزه هي قدرة سمعه على تحديد العلة، مستشهداً بمرات كثيرة كان يرافق فيها أبا صبحي، منها أنه أخبره عن علة محرك ما يدور عن بعد، حيث تمكَّن من معرفة تلك العلة من صوت المحرك.
ويضيف:" لايوجد مصلحون مثله بصدقه وأمانته، كما أنه لا يكلف الزبون، لذلك نحن نتعامل معه من سنوات طويلة".

في الختام:

لا يخفى على أحد احتمالات الضرر التي تحملها مثل هذه الحرفة، نظراً إلى احتواء المحركات على قطع حادة أو قاطعة، لكن أبا صبحي يمكنه أن يكمل عمله بكل دقة، دون أن يعرِّض نفسه للأذى، موضحاً أنَّ "الذي يتعرِّض للضرر فإنَّ سبب ذلك يكون ضعف الخبرة، وليس الرؤية؛ فالبصر وحده لا يكفي لمواصلة الحياة بنجاح

http://www.baladnaonline.net/ar/index.php?option=com_content&task=view&i...