لا تخترني من فضلك

لا يوجد ردود
مشترك منذ تاريخ: 11/02/2007

عندما يقف المرء أمام دائرة أو مؤسسة حكومية يُؤخذ بجودة البناء، وروعة التصميم، وقد يغيب أمام صرحها المعماري في شريط من الذكرى يمرّ سريعًا، يقارن فيه بين ما كانت عليه البلاد قبل عقدين أو ثلاثة وما صارت إليه اليوم، فيحمد الله على ما حبانا من فضله، إذ توافرت سبل الراحة الجسدية. ولكنّ الآية تنقلب بمجرد الدخول إلى المبنى، والنظر إلى وجوه الموظفين، في محاولة للبحث عن الشخص المناسب للتوجّه إليه بالمعاملة، أو بالسؤال عمّا يجب فعله لإنجاز هذه المعاملة.

إن أغلب ما يراه المراجعون في الدوائر الحكومية هو وجوه عابسة، وربما غاضبة، تحركها أجساد لا يُعرف إن كانت متعبة، أو مالّة، أو محبطة، أو مثقلة بهمّ ما لا يُعرف سببه أو مصدره. وهذا يربك المراجع، ويضعه في حيرة، إذ لا يستطيع أن يفاضل بين وجه وآخر، أقصد بين شخص وآخر، فكل الوجوه متماثلة أمامه في الإيحاء إليه بأنها لا تريد استقبال معاملته، أو حتى الإجابة عن أسئلته، وكل وجه يرسل بصمت الرسالة نفسها (لا تخترني من فضلك)، أو (لستُ الشخصَ المناسب لك)، وهنا لا يملك المراجع إلا أن يختار بين أحد أمرين: إما أن يعود أدراجه، وأن يرجئ معاملته حتى حين آخر، تكون نفسيات الموظفين فيه أفضل، أو أن يتوجّه إلى أحد الموظفين بشكل عشوائي متوكّلاً على الله.

وأمام هكذا اختيارين، أحلاهما مرٌّ كما يقال، غالبًا ما يختار المراجع الثاني منهما، لأسباب وجيهة، منها عدم استعداده للعودة بخفيّ حنين بعد أن وصل إلى الدائرة أو المؤسسة، خصوصًا إن كان قد قطع مسافة طويلة للوصول إليها. ومنها تفكيره في معاناة الحصول على موقف لسيارته، التي لا تزال كثير من الدوائر والمؤسسات الحكومية تعاني منها. ولكنّ السبب الأهم من كل هذا وغيره هو الإحساس الذي أصبح مسيطرًا على أغلب المراجعين بأن وجوه هؤلاء الموظفين لن تتغير بين يومٍ وآخر، وإن تغيرت فإنها غالبًا ما تتغير إلى حالٍ هي اليوم أفضل منه، بل يبدو للمراجع أن ما يراه على وجوههم ليست انفعالات مؤقتة وزائلة، إنما أصبحت جزءًا من ملامحهم التي لا تفارقهم، ولا تكاد تختلف بين مكانٍ وآخر.

وهنا، يمرّ شريط الذكرى نفسه مرة أخرى، ولكن بشكل مختلف؛ فإذا كنّا قد استطعنا اللحاق بركب الحضارة والتطور، وحصلنا على ما يوفر لنا الراحة الجسدية مقارنة بما كان الحال عليه في الماضي، فإننا الآن نفتقد الراحة النفسية، ونحنّ إلى زمن كانت البسمة فيه لا تفارق وجوه الناس، رغم صعوبة الحياة، وقسوة الأيام، وقلة الموارد، وهذا ما يجعل المرء يقف بدهشة أمام مفارقة غريبة، ومريرة، لا يملك أمامها إلا أن يحمد الله على كل حال؛ فكيف يستطيع المرء أن يوفق بين تحقق الراحة الجسدية وانعدام الراحة النفسية، مع أن تحقق الأولى منهما قد يكون سببًا لتحقق الثانية، أو على الأقل لن يكون عائقًا أمام تحققها؟

وكيف كانت النفسيات أكثر استقرارًا وراحة قبل ثلاثة عقود مع أن الأجساد كانت مرهقة ومستنزفة بفعل عوامل مختلفة؟

ثم، ألم نأخذ من الآخر مظاهر التطور العمراني والحضاري حتى أصبح يُشار إلينا بالبنان، ويُشهد لنا بقصب السبق في هذا الميدان، فلماذا لم نأخذ منه أيضًا حسن المعاملة، والبشاشة التي تغلب على وجوههم في مختلف الأحوال والأحيان؟

إنني لا أسعى لتقديم الآخر بوصفه النموذج المحتذى، لكنني أريد أن نأخذ من هذا الآخر ما يتفق وما نشأنا عليه من مبادئ وقيم إنسانية تنبع من ديننا الإسلامي الحنيف، ومن عاداتنا الاجتماعية الأصيلة، فإذا كان "الدين المعاملة"، و"تبسُّمك في وجه أخيك صدقة"، كما قال رسولنا الكريم عليه صلوات الله وسلامه، فكيف يتفوق علينا الآخر في جانب كنّا نحن أولى به وأحقّ؟!

وكما كثرت شكاوي المراجعين من سوء المعاملة في الدوائر الحكومية، كثرت شكاويهم من إهمال الموظفين لاتصالاتهم، وعدم الإجابة عليهم، عند الرد على الاتصال، بإجابات ذات فائدة، إذ كثيرًا ما يطلب الموظف من المراجع المجيء إلى الدائرة للتزود بالمعلومات المطلوبة للمعاملة التي يسأل عنها، وكأن الهاتف لم يوضع لتوفير الوقت والجهد على المراجعين، حتى اضطرّت إحدى وزاراتنا إلى إصدار قرار يلزم موظفيها بالردّ على الاتصالات الهاتفية التي تصلهم، وعدم رفع سماعة الهاتف في المكاتب، وكذلك على حسن استقبال المراجعين في الوزارة.

وظاهرة عدم الرد على الاتصالات في كثير من الدوائر والمؤسسات الحكومية تشي بوجود خلل ما في مستوى فهم الموظف للدور المناط به أثناء قيامه بمهامّه الوظيفية؛ فكثير من الموظفين يتجاهل رنين الهاتف في مكتبه، أو يقوم بوضعه على خاصية الرنين الصامت، أو يرفع السماعة، وكأنه على قناعة تامة بأن الرد على هذه الاتصالات يقع خارج نطاق عمله، مع أنه جزء أساسيّ فيه، وهذا ما نصّ عليه القرار الذي أصدرته الوزارة المشار إليها في الخبر المذكور.

إن هذا الخبر، الذي نقلته إحدى الصحف المحلية منذ أيام، وليس منذ عقود أو حتى سنوات، يدلّ على تفاقم ظاهرة سوء المعاملة التي يتعرض لها المراجعون في الدوائر والمؤسسات الحكومية، وكأنها تسير من سيئ إلى أسوأ، وهذا يفرض علينا التساؤل بمرارة حول الأسباب التي أدت إلى بلوغ الموظفين هذا المستوى من القسوة واللامبالاة أثناء أدائهم مهامهم الوظيفية، ويجعلنا في حيرة إزاء جدوى ما أنجزناه كمعجزة في غضون سنوات قليلة، إذا كنّا قد عجزنا عن المحافظة على ما كنّا نمتلكه بالفعل من قبل.