فصل من رواية القلعة البيضاء لاورهان باموك -نوبل

5 ردود [اخر رد]
User offline. Last seen 7 سنة 48 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 30/01/2006

فصل من رواية "القلعة البيضاء"

للكاتب التركي أورهان باموق:

ترجمة ايزابيل كمال

أورهان باموق

الفصل الأول

كنا نمخر عباب البحر قادمين من فينيسيا فى اتجاه نابلس عندما لاح على بعد الأسطول التركى. رأينا فى المقدمة ثلاث سفن، لكن رتل المجاديف المنبثقة من الضباب بدا بلا نهاية. فقدنا أعصابنا. اندلع على سفينتنا على الفور احساس بالخوف والإضطراب، وصاح المراكبية ومعظمهم من الأتراك والمغاربة صيحات البهجة والفرح. حولت مركبتنا مجاديفها صوب الشاطئ غربا، مثل السفينتين الأخريين، لكن على عكسهما لم تستطع أن تبحر بالسرعة المطلوبة. لأن قبطاننا خشى العقاب الذى قد يناله إذا تعرض للأسر ، لم يستطع إصدار أوامر قد تستفز الأسرى من المراكبية. بعد مضى سنوات على ذلك الحدث تأكدت أن هذا الموقف الجبان فى تلك اللحظة غير مجرى حياتى كلها.

لكن الآن يبدو لى أن حياتى كانت ستتغير حتى لو لم يسيطر ذلك الخوف المفاجئ على قبطاننا. يعتقد الكثيرون أن حياة المرء لا تتغير دائما بشكل مطرد للأمام، ذلك أن كل القصص فى جوهرها سلسلة من الصدف. ومع ذلك فحتى هؤلاء الذين يعتقدون هذا يصلون أيضا لخاتمة، عندما يتأملون ماضيهم ويدركون أن الأحداث التى نظروا إليها باعتبارها محض صدفة كانت أمرا محتوما لا مفر منه. لقد توصلت إلى هذه الأفكار الآن حيث أجلس إلى منضدة عتيقة أدون كتابى هذا وأنا أتخيل ألوان السفن التركية التى تبدو لى كأنها أطياف فى الضباب، يبدو هذا أنسب وقت لقص حكاية.

تشجع قبطاننا عندما رأى السفينتين الأخريين تتسللان من السفن التركية وتختفيان فى الضباب، وفى النهاية ضرب المراكبية، لكن الوقت كان قد فات، فحتى ضرب السياط لم يجد نفعا من العبيد لينصاعوا له بمجرد أن تحرك داخلهم الإحساس بالحرية. تحطم حائط الخوف الضبابى داخلهم متحولا إلى أمواج من الألوان وفى لحظة واحدة وقف فى مواجهتنا ما يزيد على عشرة سفن تركية. وفى النهاية قرر قبطاننا أن يحارب، محاولا هزيمتهم، فى اعتقادى أنه لم يكن الخوف من العدو هو الذى جعله يضرب العبيد بالسياط بلا رحمة ويأمر باستعداد المدافع بقدر المخاوف والإحساس بالخزى النابع من داخله. رغم أن رغبته فى القتال جاءت متأخرة، إلا أنه سرعان ما انطلق نحونا وابل من الرصاص مندلعا بعنف من جانب السفينة، يقينا كانت سفينتنا عرضة للغرق لو لم نستسلم فى الحال ـ قررنا رفع أعلام الاستسلام.

بينما كنا ننتظر على سطح بحر هادئ انسحاب السفن التركية جانبا، ذخبت إلى قمرتى، رتبت أغراضى كأننى لا أتوقع أن ما سيغير حياتى هم الأعداء بل زيارة بعض الأصدقاء، وفتحت حقيبة ثيابى الصغيرة أفتش عن كتبى ثم شردت. فاضت عينىّ بالدموع وأنا أقلب صفحات كتاب ابتعته بثمن باهظ من فلورنسا، سمعت صراخ وخطوات تندفع ذهابا وإيابا، ثمة اضطراب بالخارج، أدركت أنه من الممكن فى أية لحظة أن ينتزع الكتاب من يدى، ومع ذلك لم أرغب فى التفكير فى ذلك، بل فيما هو مكتوب على صفحات هذا الكتاب. كأن هذا الكتاب بما فيه من أفكار وعبارات ومعادلات يضم بين جنبيه كل حياتى الماضية والتى أخاف أن أفقدها، بينما رحت أقرأ بعض الجمل بشكل عشوائى فى همس كأننى أتلو صلاة. حدت بى رغبة يائسة أن أطبع فى ذاكرتى الكتاب بأكمله، لذا حين دخلوا لم أكن افكر فيهم أو فى المعاناه التى سيسببنوها لى بل أتذكر ألوان الماضى كأننى أستدعى إلى ذاكرتى كلمات عزيزة على القلب من كتاب يقترن بالبهجة.

فى تلك الأيام كنت شخصا مختلفا، حتى اسمى الذى كانت تنادينى به أمى وخطيبتى وأصدقائى كان مختلفا. لآ زلت أحيانا أرى فى أحلامى ذلك الشخص الذى كنته أو الذى أعتقد الآن أننى كنته وأستيقظ مبللا بالعرق. هذا الشخص الذى يستحضر للعقل الآن ألوانا باهتة وظلالا شبيهة بالأحلام من تلك البقاع التى لم توجد فى الحقيقة إطلاقا، وحيوانات لم توجد وأسلحة لا مثيل لها اخترعناها فيما بعد سنة وراء أخرى، كان فى ذلك الحين فى الثالثة والعشرين من عمره، درس العلوم والفنون فى فلورنسا وفينيسيا. كان يعتقد أنه يعرف بعض الشئ عن علم الفلك والرياضيات والفيزياء والفن التشكيلى. بالطبع كان مغرورا بسبب تشربه لمعظم ما تعلمه قبل أوانه، فنظر بازدراء لهذه الأمور كلها، لم يكن لديه شك أنه فعل الأفضل، وأنه بلا منافس وعرف أنه الأكثر ذكاء وإبداعا من أى شخص سواه. باختصار، كان نموذجا للشباب. يؤلمنى أن أفكر حين أضطر لاختراع ماض لنفسى أن ذلك الشاب الذى تحدث مع حبيبته عن الآمه وخططه والعالم والعلم والذى وجد أنه من الطبيعى لخطيبته أن تتعبد فيه، كان أنا نفسى حقيقة. لكنى أريح نفسى بفكرة أنه يوما ما قليل من الأشخاص سيقرأون بصبر ما أكتبه هنا حتى النهاية ويفهمون أننى لم أكن ذلك الشاب. وربما سيفكر أولئك القراء الصبورون كما أفعل الآن أن قصة ذلك الشاب الذى خرج من حياته بينما يقرأ كتبه الثمينة واصل فيما بعد من النقطة التى توقف عندها.

عندما بدأ البحارة الأتراك فى هياجهم وثورتهم وصعدوا إلى سطح السفينة وضعت كتبى فى حقيبتى ونظرت للخارج.

اشتد الهياج على سطح السفينة. كانوا يجمعون كل الموجودين معا ويخلعون عنهم ثيابهم. للحظة مرت بخاطرى فكرت أننى أستطيع القفز إلى البحر منتهزا تلك الفوضى، لكنى فكرت أنهم سيطلقون النار علىّ فى الماء، أو يمسكون بى ويقتلوننى مباشرة، وعلى أى حال، لم أكن أعرف المسافة بيننا وبين اليابسة. فى البداية لم يضايقنى أحد. تخلص العبيد المسلمون من السلاسل التى تقيدهم وراحوا يصيحون فى فرح وبهجة، وتحدثت مجموعة منهم عن الانتقام مباشرة من الرجال الذين ضربوهم بالسياط. سرعان ما عثروا علىّ فى قمرتى فدخلوا وعبثوا بأغراضى وأخذوا يقلبون حقائبى علهم يجدون ذهبا، وبعدما أخذوا بعض كتبى وكل ملابسى أمسك بى أحدهم وأن أحدق ذاهلا فى الكتابين المتبقيين وأخذنى إلى واحد من القباطنة.عرفت فيما بعد أنه مسيحى من أهل جنوة تحول إلى الدين الإسلامى، عاملنى بلطف وسألنى عن مهنتى ورغبة منى فى تجنب العمل مع المراكبية أوضحت له أننى على معرفة بعلم الفلك والملاحة الليلية، لكن هذا لم يسفر عن أى انطباع مما حدا بى أن أوضح لهم أننى أعمل طبيبا مشيرا إلى كتاب علم التشريح الذى تركوه معى. عندما عرضوا علىّ رجلا فقد ذراعه أعترضت بأننى لست جراحا. أثار هذا حنقهم علىّ ، وأوشكوا أن يلقوا بى مع المراكبية عندما سأل القبطان ناظرا إلى كتبى إذا كنت أعرف أى شئ عن البول والنبض. عندما أجبته بالإيجاب أنقذت من العمل مع المراكبية وتمكنت حتى من انقاذ القليل من كتبى.

لكن هذا التميز كلفنى الكثير. فسرعان ما احتقرنى للغاية المسيحيون الآخرون الذين عملوا بالمجاديف. كان بودهم أن يقتلوننى فى مخزن السفينة حيث يتم حبسنا بالليل لو كان ذلك باستطاعتهم لكنهم خافوا لأننى أسرعت بتوطيد علاقات طيبة مع الأتراك. أما قبطانا الجبان فقد مات إعداما بالخازوق، وإرهابا للآخرين قاموا بجدع أنوف وآذان البحارة الذين كانوا يضربون العبيد بالسياط، ثم ألقوا بهم فى البحر على طوف من الخشب. بعدما تعاملت مع قليل من الأتراك مستخدما حصافتى ناهيك عن معرفتى بعلم التشريح وقد التأمت جراحهم من تلقاء نفسها، فى حين اعتقد الجميع أننى طبيب بالفعل. حتى بعض أولئك الذين كان يعتمل داخلهم الحسد مما جعلهم يخبرون الأتراك أننى لست طبيبا بالمرة، كانوا يعرضون علىّ جراحهم فى المساء فى مخزن السفينة.

أبحرنا إلى إسطنبول فى مشهد احتفالى. قيل أن السلطان الطفل كان يشاهد تلك الاحتفالات. رفعوا أعلامهم وراياتهم على كل الصوارى أما أعلامنا فقد علقوها أسفل المراكب، وقلبوا أيقونات العذراء مريم والمسيح المصلوب، حتى أن أى شخص متهور من المدينة يقفز إلى سطح المركب يقذف بها على الأرض بقوة. وانطلقت نيران المدافع نحو السماء. ذلك الحفل كغيره من الاحتفالات الكثيرة التى كان علىّ أن أشهدها من اليابسة بعد ذلك بسنوات بشعور ممزوج بالأسف والغثيان والسعادة استمرت وقتا طويلا لدرجة أن كثير من النظارة تعبوا من حرارة الشمس. قرب المساء أخذونا إلى بيت كاظم باشا وقبل أن يبعثوا بنا للمثول أمام السلطان قيدونا بالسلاسل وأرغموا جنودنا على ارتداء دروعهم للسخرية منهم وطوقوا الضباط بأطواق حديدية حول أعناقهم ونفخوا فى الأبواق والنفير التى نهبوها من سفينتنا، ودفعونا للقصر مفعمين بخشونتهم واحساسهم بالنصر. كان أهل المدينة يصطفون بطول الشوارع يشهدون موكبنا كنوع من اللهو والفضول. أما السلطان الذى لم يظهر أمامنا فقد اختار نصيبه من العبيد وفصلهم عن الآخرين. قاموا بترحيلنا عبر الجولدن هورن إلى غلطة فى زوارق طويلة وحشدونا فى سجن صادق باشا.

كان السجن مكانا بائسا. فقد ألقى بمئات من الأسرى فى العفن والقذراة فى زنازين رطبة بالغة الصغر. وجدت هناك عديد من الأشخاص الذين يمكنى أن أتدرب على مهنتى الجديدة عليهم وبالفعل عالجت بعضهم. وكتبت بعض الروشتات الطبية للحراس المصابين بالآم فى ظهورهم أو سيقانهم. لذلك حظيت هنا أيضا بمعاملة مختلفة عن الآخرين، كما منحونى زنزانة أفضل تسمح بدخول ضوء الشمس. نظرا للظروف التى يعيشها الآخرون من حولى حاولت الامتنان للمعاملة التى أتعامل بها. لكن ذات صباح أيقظونى كما أيقظوا بقية المساجين وأخبرونى أنه يترتب علىّ أن أخرج للعمل. عندما اعترضت بذريعة أننى طبيب وعلى علم بالطب والعلم تعالت ضحكاتهم وقالوا أن هناك حوائط حول حديقة الباشا ينبغى بناؤها ولذا هم فى حاجة للرجال. كانوا كل صباح يقيدوننا معا قبل أن تشرق الشمس ويأخذوننا إلى خارج المدينة. عندما نعود مجهدين إلى السجن فى نهاية اليوم ونحن لا نزال مقيدين كل إثنين معا بعد يوم طويل من جمع الحجارة، لاحظت أن إسطنبول حقيقة مدينة جميلة لكن للسادة وليس للعبيد.

ومع ذلك لم أكن عبدا عاديا، فقد سمع الناس أننى طبيب، لذلك لم أعد فقط أعتنى بالعبيد الذين يحيون حياة بائسة فى السجن لكنى أعتنى أيضا بالآخرين. اضطررت أن أدفع جزءا كبيرا من الأجر الذى أربحه من عملى كطبيب للحراس الذين يهربوننى للخارج. بالنقود استطعت أن أختفى منهم وأدفع أجر دراسة اللغة التركية. كان معلمى شابا لطيفا يكبرنى بعدة أعوام يعتنى بالشئون الخاصة بتفاصيل حياة الباشا. أسعده أن يرانى سريع التعلم للغة التركية، وقال لى أننى يمكنى أن أصبح مسلما فى وقت قليل.

كان علىّ عقب كل حصة أن أضغط عليه ليقبل النقود. كنت كذلك أعطيه نقودا ليشترى لى طعاما لأننى كنت مهتما بالحفاظ على صحتى.

ذات مساء غائم حضر إلى زنزانتى أحد الضباط وقال لى أن الباشا يرغب فى رؤيتى. هيأت نفسى فى الحال وأنا مغمور بشعور من الدهشة والإثارة. ظننت أن واحدا من أقاربى الأذكياء، ربما والدى أو زوج أمى مستقبلا أرسل نقودا فدية لى. أثناء سيرى تحت الغيوم فى تلك الشوارع الضيقة المنعطفة شعرت فجأة كأنى ذاهب لمنزلى، أو كأنى سأرى محبوبتى وجها لوجه كما لو كنت سأستيقظ من حلم. ربما تمكنوا من إرسال شخص للتفاوض من أجل إطلاق سراحى، ربما تكون تلك الليلة بعينها هى نفس اليلة الضبابية التى وضعونى فيها فى سفينة وأعادونى إلى وطنى. عندما دخلت قصر الباشا لاحظت أن انقاذى لن يكون سهلا. كان الموجودون فى المكان يسيرون على أطراف أصابعهم.

فى البداية قادونى إلى قاعة كبيرة انتظرت فيها حتى أدخلونى إلى حجرة. كان يتمدد تحت الغطاء على كنبة ديوان صغيرة رجل ضئيل الحجم لطيف. هناك رجل آخر قوى البنية يقف إلى جواره. كان المتمدد على الديوان هو الباشا، الذى أومأ إلىّ أن أقترب منه. تحدثنا معا. سألنى بعض الأسئلة. أخبرته عن مجالات دراستى الحقيقية فى علم الفلك والرياضيات والهندسة التى حققت فى مجالها درجة أقل منهما، وأضفت أننى أيضا على معرفة بالأدوية وأننى قمت بعلاج عدد من المرضى. واصل أسئلته لى وأوشكت أن أحكى له المزيد عن نفسى فأقول له أننى شخص ذكى استطعت تعلم اللغة التركية بسرعة فائقة، لكنه أضاف أن لديه مشكلة صحية لم يستطع الأطباء الآخرين القدرة على علاجه منها، وأنه لدى سماعه عنى أراد وضعى تحت الاختبار.

بدأ فى وصف مشكلته بطريقة لا مفر من القول معها أنه يعانى مرضا نادرا هاجمه هو فقط دون كل أهل الأرض، لأن أعداءه قد خدعوا الله عز وجل بافترائاتهم. بينما انحصرت شكواه ببساطة فى صعوبة التنفس. سألته باستفاضة واستمعت لسعاله ثم ذهبت للمطبخ وقمت بإعداد أقراص مضادة للسعال خضراء اللون طيبة النكهة من الأشياء التى وجدتها هناك. أعددت له أيضا شرابا مضادا للسعال. لأن الباشا كان خائفا من التعرض للسم أبتلعت واحدا من الأقراص ورشفت من الشراب وهو يراقبنى. قال لى أنه يتحتم علىّ مغادرة القصر خلسة، وأن أتنبه جيدا ألا يرانى أحد. وعدت للسجن. أوضح لى الضابط فيما بعد أن الباشا لم يكن يريد أن يثير حفيظة الأطباء الآخرين. عدت فى اليوم التالى واستمعت إلى سعاله وقدمت له الدواء. كان سعيدا كالأطفال بالأقراص الملونة التى وضعتها فى كفه. أثناء عودتى للزنزانة تمنيت من الله أن تتحسن صحته. وفى اليوم التالى هبت الريح الشمالية مما طبع الطقس بنسيم معتدل لطيف ففكرت أن الرجل قد تتحسن صحته فى هذا الطقس الطيب حتى على الرغم من إرادته، لكنى لم أسمع شيئا.

بعد مضى شهر حين تم استدعائى مرة أخرى فى منتصف الليل كان الباشا يقف على قدميه ويتمتع بروح عالية. ارتحت لسماعه يتنفس بسهولة وهو يوبخ قليل من الأشخاص. كان سعيدا لرؤيتى وقال أنه شفى من مرضه لأننى طبيب جيد. ما الصنيع الذى يمكننى أن أطلبه منه؟ كنت أعرف أنه لن يطلق سراحى فى التو واللحظة ويعيدنى إلى وطنى. لذلك شكوت له من زنزانتى ومن السجن وشرحت له أننى أعانى إرهاقا شديدا بلا جدوى من العمل المرهق فى حين أننى سأكون أكثر نفعا فى ممارسة علم الفلك والعلاج. لا أعرف إلى أى مدى كان يصغى لى. أخذ الحراس نصيب الأسد من كيس النقود الذى منحه لى.

ذات ليلة بعد أسبوع جاء أحد الضباط إلى زنزانتى وبعد ما جعلنى أقسم على عدم محاولة الهرب حررنى من السلاسل التى تقيدنى. كان علىّ أن اذهب للعمل مرة أخرى، لكن مراقبى العمال كانوا يعاملوننى معاملة أفضل من ذى قبل. بعد ثلاثة أيام أخرى أحضر لى الضابط ملابس جديدة وعرفت أننى أتمتع برعاية وحماية الباشا.

كان لا يزال يتم استدعائى مساء لقصور مختلفة. قمت بعلاج بعض القراصنة المسنين المصابين بالروماتيزم وشباب من الجنود لديهم الآم فى المعدة. استنزفت أولئك المصابين بالحكة والشاحبين أو المصابين بالصداع. ذات مرة بعد أسبوع قدمت دواء شرب لابن خادم مصاب بالفأفأة، عندما شفى كتب لى قصيدة شعر.

مر الشتاء على هذا المنوال. لدى قدوم الربيع سمعت أن الباشا الذى لم يسأل عنى منذ شهور لأنه كان فى البحر الأبيض المتوسط بصحبة أسطوله البحرى. أخبرنى أولئك الذين لاحظوا قنوطى ويأسى خلال أيام الصيف الحارقة أنه ليس لدىّ سبب للشكوى لأننى أربح نقودا كثيرة كطبيب. وهم دائما يحتفظون بعبد ينتفعون به كما يحدث معى ولا يسمحون له بالعودة لبلاده إطلاقا. نصحنى شخص كان عبدا فيما مضى ثم تحول للإسلام بعدم الهروب، وقال أننى إذا تحولت للدين الإسلامى كما فعل سأحرر نفسى من العبودية لكن لا شئ أكثر من ذلك. وفكرت أنه ربما يقول ذلك لسبر أغوارى فقلت له ليس لدىّ نية محاولة الهرب إذ لا تنقصنى الرغبة بل الشجاعة. أولئك الذين هربوا كلهم تم الإمساك بهم قبل أن يبتعدوا كثيرا. بعد فشلهم هذا وسوء الحظ الذى منيوا به تعرضوا للضرب المبرح وكنت أنا الذى أرش السلفا على جروحهم فىالليل فى زنازينهم.

عاد الباشا وأسطوله مع قرب الخريف، وقدم تحياته للسلطان بإطلاق نيران المدافع محاولا إحياء روح البهجة فى المدينة كما فعل العام الماضى، لكن كان من الواضح أنهم لم يقضوا ذلك الموسم على مايرام. فلم يحضروا للسجن أكثر من بضعة عبيد. علمنا فيما بعد أن أهل فينيسيا أحرقوا لهم ست سفن. تحينت الفرص للحديث مع العبيد أملا فى سماع أخبار عن بلادى لكنهم صموتين مهملين جبناء لا رغبة لهم فى الحديث إلا للتسول طلبا للمساعدة أو الطعام. واحد فقط استرعى انتباهى. كان قد فقد ذراعه لكنه مفعم بالتفاؤل وقد أخبرنى أن أحد أسلافه عاش يعانى نفس البلاء وكتب قصة رومانسية عن فرسان القرون الوسطى بالذراع الوحيدة المتبقية له. كان يعتقد أنه سيفعل نفس الشئ. فى السنوات التالية حين كتبت قصصا تذكرت ذلك الرجل الذى كان يحلم أن يعيش حتى يكتب القصص. بعد ذلك بوقت ليس بالكثير انتشر فى السجن مرض معد، وباء شديد النحس قتل أكثر من نصف العبيد قبل أن ينتهى، وقد حميت نفسى منه برشوة الحراس.

الذين ظلوا على قيد الحياة بعد ذلك أخذوا للعمل فى مشروعات جديدة أما أنا فلم أذهب معهم. كانوا يعودون فى المساء ليحكوا عن ذهابهم إلى قمة الجولدن هورن حيث يرغمونهم على العمل فى أعمال مختلفة تحت إشراف النجارين والخياطين والنقاشين:كانوا يقومون بصناعة نماذج للسفن والقلاع والأبراج من الورق المعجن. عرفنا بعد ذلك سبب هذه الأعمال. كان ابن الباشا سيتزوج من ابنة الصدر الأعظم وكانت الترتيبات تتم لإحياء حفل زفاف ضخم.

استدعيت لقصر الباشا ذات صباح. ذهبت وأنا أظن أن صعوبة التنفس قد عاودته. كان الباشا مشغولا فأخذونى لأجلس فى حجرة منتظرا إياه. بعد عدة دقائق انفتح الباب ودخل رجل يكبرنى بخمس أو ست سنوات. نظرت إلى وجهه مصدوما وشعرت بالرعب.

"القلعة البيضاء" رواية أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل 2006، تصدر في الايام القليلة المقبلة عن الهيئة المصرية الهامة للكتاب، سلسلة الجوائز التي تشرف عليها الروائية الدكتورة سهير المصادفة.

ايزابيل كمال

الشاعرة والمترجمة ايزابيل كمال الحاصلة على

جائزة الدولة التشجيعية فى الترجمة لعام 2003.

User offline. Last seen 16 سنة 22 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 15/09/2006

يسلمو إيديكzagros على هالمقال لأورهان باموك الكاتب التركي الذي نال جائزة نوبل لهذا العام ...و يبدو أن هذا الكاتب له ضمير ، حيث أنه صرح لجريدة سويسرية بأن مليون أرمني و ثلاثين ألف كردي قتلوا على الأرض التركية من قبل الأتراك و بذلك أثار ضجة كبيرة في تركيا و تمت محاكمته بتهمة إذلال و إهانة القومية التركية-كما ادعى القومجيون الترك-
وشكراً لك

User offline. Last seen 7 سنة 48 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 30/01/2006

مشكور كثيرا عزيزي hasan123

اشكرك على الاهتمام الذي ابديته تجاه هذه الشخصية الرائعة التي قال كلمة الحق رغم كل الصعاب التي واجهته

تقبل احر تحياتي على اهتمامك

User offline. Last seen 7 سنة 48 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 30/01/2006

اخي hasan123 بالنسبة الى ما ذكرته حول اورهان باموك كتب احد الكتاب المصريين ما يلي في هذا الصدد ::::::

جائزة نوبل للآداب تنصف أورهان باموك التركي «المضطهد»

مقال عبده وازن

أورهان باموك

كان من المتوقع ان يفوز الروائي التركي أورهان باموك بجائزة نوبل للآداب هذه السنة بعدما طُرح اسمه بقوة السنة الفائتة، عندما حاولت الحكومة التركية عرقلة فوزه، تحاشياً لإحراجها دولياً إزاء عزمها محاكمة هذا الكاتب الكبير، بتهمة «الإساءة المتعمّدة الى الهوية التركية». واختيار باموك للفوز بالجائزة الكبيرة كان بمثابة التحدي للأكاديمية السويدية التي أعلنت فوزه أمس بعدما راجت اسماء كبيرة في الإعلام، واعتبرت في براءة الجائزة «ان باموك اكتشف رموزاً جديدة لتصادم الثقافات وتشابكها خلال بحثه عن الروح الكئيبة للمدينة التي ولد فيها».

ولم يخلُ اختيار باموك من البُعد السياسي، فالدولة التركية التي طالما حاربت هذا الكاتب لمواقفه السياسية تسعى جاهدة الى دخول الاتحاد الأوروبي، محاولة إيجاد صيغة لقضية المجازر التي ارتكبتها في حق الشعب الأرمني عام 1915، وهي تشعر الآن بالإحراج بعد صدور القانون الفرنسي أمس في شأن المجازر هذه.

ولئن عدلت الحكومة التركية السنة الفائتة عن محاكمة أورهان باموك وسحبت القضية من المحكمة نزولاً عند رغبة «المفوضية الأوروبية» التي مارست ضغوطاً عليها، وبعد الحملة التي قامت بها الأوساط الثقافية العالمية، فهي ستجد نفسها محرجة حيال هذه الجائزة. فالكاتب لا يزال على مواقفه ويصر على الدولة ان تعترف بمقتل مليون أرمني وثلاثين ألف كردي لاحقاً، في المعارك التي دارت بينها وبين «حزب العمال الكردستاني».

User offline. Last seen 16 سنة 22 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 15/09/2006

شكراً لك زاغروس على هالمقالات و إن شاء الله تدعمنا بكل جديد عن الكاتب التركي الشريف أورهان باموك و السلام عليكم

User offline. Last seen 7 سنة 48 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 30/01/2006

اشكرك اخي hasan123

على الاهتمام تقبل مني تحياتي

شكرا ثانية على الاهتمام

انشاء الله ترقب

وعليكم السلام ورحمته

:idea: :idea: :idea: :idea: